وزير الثقافة الاسبق رياض نعسان اغا يكتب ذكريات عربية 99
———————
زهرة المدائن
كانت القدس العاصمة العربية الوحيدة التي لم أزرها ، لكن قلبي يرتل مع فيروز أغنيتها الشهيرة : ( عيوننا إليك ترحل كل يوم ، تدور في أروقة المعابد ، تعانق الكنائس القديمة ، وتمسح الحزن عن المساجد ) ، وجاءت مناسبة الدورة الخامسة عشرة لمجلس وزراء الثقافة العرب التي انعقد في مسقط عام 2006 وكان مبرمجاً أن تكون بغداد عاصمة للثقافة العربية لعام 2009 ، لكن وزير الثقافة العراقي تقدم باعتذار لكون بغداد تحت الاحتلال وغير آمنة ، وسرعان ما تشاورت مع صديقي المثقف الكبير الدكتور عطا الله أبو السبح وزير الثقافة الفلسطيني بأن يطلب من المجلس اعتماد القدس عاصمة للثقافة العربية ، وقد فعل وطلب وفوجئ الوزراء فأعلنت أن دمشق مستعدة لتقديم كل ما يلزم وأن مقر الاحتفالية سيكون في كل العواصم العربية ، وفي كل بيت عربي ، وتجاوب السادة الوزراء مع دعوة صديقنا الوزير الفلسطيني الدكتور عطا ، وكان على رأسهم صاحب السمو هيثم بن طارق ( سلطان عمان حالياً ) وكان يومها وزيراً للثقافة ، واحتضت كل العواصم العربية أنشطة الاحتفالية التي أعادت إلى القلوب بريق القدس ضياء نور ومحبة وإصرار على عروبتها منذ سكنها أجدادنا اليبوسيون الأوائل قبل خمسة آلاف عام، وهم الذين أسسوها، وسموها يبوس في الألف الثالث قبل الميلاد، وكانت تلك الهجرة السامية الأولى ثم تلتها الثانية في الألف الثاني ق•م، وحين قدم إليها اليهود في القرن الثاني عشر ق •م، كان فيها سكانها العرب الكنعانيون، وقد عرفت باسم أرض كنعان، وكانت فيها حضارتهم التاريخية العريقة ومدنهم الفينيقية الشهيرة، وتقول الروايات الدينية إن اليهود سكنوا فيها سبعين عاماً فقط ، والمفارقة أن المؤرخين اليهود كانوا يتشاءمون من الرقم سبعين، وكان ذلك العهد اليهودي الذي أصدق وجوده لمجرد أن داود وسليمان عليهما السلام مذكوران في القرآن الكريم، فأما الشواهد الأثرية فلم تقدم لنا أي دليل مادي على هذا الوجود اليهودي، وقد انهارت دولة اليهود الدينية العابرة في التاريخ ، وبقيت عروبة الأرض قائمة إلى اليوم.
ولكن الصراع حول القدس وفلسطين سيبقى أبدياً، وتاريخ هذا الصراع يمتد قروناً، وقد سقطت بيد الفرنجة زمن حروب الفرنجة، ولكن اتحاد الأمة بقيادة صلاح الدين الأيوبي مكنها من تحرير القدس واستعادتها إلى السيادة العربية، والصراع المستمر حول القدس يدعوني إلى تأمل المفارقة الثانية التي أجدها في الحديث النبوي الشريف “لا تزال عصبة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة” وحين أتأمل هذا الحديث الشريف أجدني أفكر في السر الذي يجعل فلسطين قضية العالم كله فهي الأرض المباركة، وكبار قادة العالم اليوم يهتمون بقضية فلسطين ومستقبل إسرائيل أكثر من اهتمامهم بشؤون بلادهم، بل إن الرؤى الدينية الأيديولوجية عند كثير من القادة الأمريكان دعتهم إلى التسابق لتحقيق الرؤى التوراتية، مثل معركة “هرمجدون” التي ظن الرئيس بوش الأب أنها هي حين غزا العراق في حرب الخليج الثانية، ثم تابع ابنه حربه على العراق نصرة لإسرائيل وإيماناً منه بأن الرب هو الذي أمره بأن يغزو العراق وهذا ما كرره الرئيس بوش مرات، وعلى الرغم من أننا لا نريد الصبغة الدينية للحروب، وقد رفضها أسلافنا حين رفضوا أن تسمى الحملات على بلادهم باسم الحروب الصليبية وسموها حروب الفرنجة، فإننا نرفض إلى اليوم إسباغ الرؤى الأيديولوجية والمعتقدات الدينية على الصراع العربي الإسرائيلي، والعرب والمسلمون جميعاً ينزعون إلى السلام، وهذا يعني استعدادهم التاريخي لقبول كل الأديان السماوية في بلادهم، وقد نزلت كلها في أرضنا العربية، وتبدو “الوثيقة العمرية” أضخم شاهد على التسامح الديني الذي رسخه الإسلام في العقل العربي والمسلم، فلم يكن لدى الخليفة عمر أي مانع من تعايش اليهود والمسيحيين مع المسلمين في القدس، إلا أن رجال الدين المسيحي طلبوا من الخليفة عمر أن يضيف شرطاً إلى الوثيقة يقول “ألا يساكن المسيحيين في القدس “إيلياء” يهود، ولم يكن المسيحيون يمانعون في مساكنة المسلمين القادمين من يثرب ومكة، لأن المسلمين يؤمنون بالسيد المسيح ويجلونه ويؤمنون برسالته “إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون” والمسلمون يعتقدون بأن السيدة مريم هي المطهرة وهي التي اصطفاها الله وفضلها على نساء العالمين (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) ، ولم يكن المسلمون يطلبون أن يؤمن الآخرون برسالة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، ولكنهم يعرضونها على الناس فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وكلمة الكفر تعني الإنكار وهي ليست وصف قيمة وإنما هي وصف حالة، وفي القرآن الكريم حوار يقدم ذروة من الاحترام بين المسلمين والكافرين “لكم دينكم ولي دين”، ولقد تعرضت القدس لغزوات عديدة في التاريخ القديم، فقد غزاها الفرس واليونان والرومان ولكنها بقيت على الدوام عربية خالصة، ولا تنكر التوراة أن فلسطين أرض عربية فقد سميت فلسطين أرض غربة لآل إبراهيم وإسحق ويعقوب، مع أن العقيدة الدينية الإسلامية قد عمقت حضور إبراهيم الكنعاني مع العرب حين تزوج إبراهيم عليه السلام امرأة عربية فولدت له إسماعيل فبات جد العرب ، وها نحن أولاء المسلمين جميعاً نصلي في كل صلواتنا على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، والقرآن الكريم يجل سيدنا إبراهيم ويعده وحده أمة “إن إبراهيم كان أمة” وقد أمر الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام أن يتبع ملة إبراهيم ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً) فهو أبونا الذي سمانا مسلمين .
Discussion about this post