….سألتُ (محمّد الغُزّي Mohamed Ghozzi), ذات عشيّة سوداء، وقد أعاد لي ورقة الإمتحان، وعليها علامة (عشرة من عشرين)…وكان ذلك أواخر شهر مارس قبل العطلة سنة 1983، وأنا تلميذ شرس، بالسّنة الثالثة ثانوي، بمعهد المنصورة، قبل تقسيمه، وكان هوّ أستاذ حصّة العربيّة، وشاعر شاب ووسيم جدّا في الثّلاثين من عمره، لا يشرب ولا يُدخّن ولا يزنى ولا يُلوّث النّيل:
– أعلاشْ عشرة ؟!…
وأكملت ُ وأنا أرمي له بالورقه على الطّاولة:
– أنت صرفت، صرفت، إحذف الواحد، وخلّي والديها صفر، أهون وأرحم….
يومها تناول الورقة بكلّ هدوء واقترب من طاولتي وفرد الورقة أمامي قائلا:
– صفر، لا ….لكن العدالة هيّ أن أمنحك خمسة من عشرين. أنظر جيًدا لقد منحتك فعلا خمسة من عشرين ثمّ عدّلتها…
سألته وأنا أغلي:
– ولكن لماذا ؟!…. لم يحدث وأن كانت علامتي أقلّ من سبعة عشر في مادّة العربيّة. فكيف تسند لي عشرة وتستكثرها أيضًا ؟؟….
أجابني:
– تستحقّ خمسة لسلامة لغتك ووضوح خطّك فقط. لكن الحقيقة، أنّك لم تستحقّ أكثر من صفر… وقد جعلتها خمسة في البداية ثمّ عدّلتها إلى عشرة، فقط لأنّني يقينٌ بأنّك جدير بعلامة ممتازة ولكن ….أنظر ماذا كان موضوع التعبير ؟!
أجبتُ والغصّة تخنقني:
– تحدّث عن لوعة الخنساء وعن خصال شقيقها صخر من خلال وصفه في القصيد…
نظر لي بابتسامة، يا الله كم هي حنون وقال:
– وماذا كتبت أنت في الورقة ؟؟
رددتُ وأنا بالكاد أقرأ ورقتي من خلف غشاء دمعتي:
– عن محمّد الغزّي…!
وفي أيّ سنة نحن يا شاطر ؟؟
أجبتُ:
– 1983
فردّ بغيظ:
– ولكنّك لم تتحدّث عن الخنساء…. ولم تتحدّث عن محمّد الغزّي الآن وهو أمامك…. تحدّثت عنّي بعد 36 سنة وتحدّثت عن زوجتي رجاء…. وهذا قلّة ذوق وقلّة أدب…..
– كيف رأيتها قلّة أدب يا سيّدي ؟!
– قتلتها.…كتبت بالحرف الواحد:
وقصائد الرّثاء أربعة:
الخنساء في رثاء صخر. والمتنبي في رثاء خولة. ونزار قبّاني في رثاء بلقيس. ومحمّد الغزّي في رثاء رفيقة دربه رجاء…..
ثمّ كمّن لُدغ، تمعّن في الورقة جيّدا وقال:
– لم أر الصفحة الرّابعة من قبل…. – ما هذا ؟؟
قلتُ:
– يا سيّدي هذا قصيدك. وهذا قدرك وقدري أن أراك… هات أقرأها لك ، فما كان لك أن تتهجّأ حروفها الآن وحدك….
واعترتني رعدة وأنا أقرأ:
(قصيد لمحمّد الغزّي في رثاء زوجته رجاء):
سَوْفَ أوصِي بها العشْبَ والليْلَ والنجْمةَ الرّاجفهْ
سَوْفَ أوصِي بها الغيْمَ والماءَ
سوْفَ أقولُ لهنَّ: أحِطنَ بِهَا
فهْيَ لمْ تعْرفِ الموْتَ منْ قبْلُ ،
فاعْذرْنَها إنْ هيَ استوْحَشتْ
واعْترَتْها ، إذا دَخلتْ ، رجفةُ الخوْفِ..
سرْنَ إذنْ معَها فِي الظلامِ
وأسْندْنها عندمَا تتَعَثّرُ ،
وامْسَحْنَ دمْعتَها حينَ تبْكِي ،
فأرْهَفُ من قطرة الماءِ سيّدتِي
وأشفُّ من الضّوْءِ.
يا إخوتي الماءَ والعُشبَ والليلَ
ليلُ المقابرِ سوْفَ يكونُ طويلا
فآمنَّها إنْ تملّكَهَا الخوْفُ ،
دثّرْنَها إنْ هيَ ارْتجفتْ ،
وانحنيْنَ عليها إذا هيَ حنّتْ وعاجلها الدّمعُ…
يا إخوتي الليْلَ والماءَ والعشبَ
لا تتحدّثْنَ، إنْ هيَ جاءتْ ،عن الموْتِ
فهْي تخافُ ،
تخافُ من الموْتِ سيّدتي ،
وتخافُ من اللّيْل والصّمْت .
يا إخوتِي الليلَ والعشبَ والماءَ
جاءتْ إليكنّ هذا الصباحَ متوّجةً بطفُولتِها
ووداعتِها
فأحطن بها حين ننْفَضُّ عنها وأسْعفْنَ غرْبتَها،
فهْي ما فتئتْ تتلفًّتُ سيّدتي ،
ربّما نَسِيتْ ، قبْلَ أنْ تتْركَ البيْتَ ، أنْ تُوصِيَ الأهلَ
بالعشُب المتسلّقِ في بيتِها
بدُمَاها التي خبَّأتْها ،
بسِوارِ الطفولةِ تحْتَ وِسَادتِها .
إخوتي الليْل والماءَ والعشبَ
رافقْن في بلدِ الصّمْتِ سيّدتِي ،
لا تدعْن الغريبةَ تمْضِي إليه بمفْردِها ،
قُدْن خطواتِها حينَ يلتبسُ الليلُ ،
صاحبْنهَا في البلادِ التي لم يَعُدْ من منازلِها أحدٌ.
إخوتي الليْلَ والماءَ والعُشبَ
عمّا قريبٍ سيأخُذُها النّوْمُ بعد ليالٍ من السُّهْدِ ،
خفّفْنَ يا إخْوتي الوطءَ ،
وامْضيْنَ بين الدّرُوب على مَهَلٍ ،
فالأميرةُ مرْهقةٌ بعْدَ أنْ أوْجعتْها الحياة ُ ،
وأثخنَها العمْرُ ،
فاغْضُضْن منْ صَوْتكنّ ،
تمَهّلنَ في السّيْر ،
هاهيَ ألقتْ على رُكبة الأرضِ ، من تعَبٍ ، رأسَها..
إخوتي الطيرَ والعُشبَ والماءَ
كنّ لها ، حين ننْفضّ ، حضْنا دفيئا
وكنّ لها ، حين ننْأى ، يدًا حانيهْ ..
Mohamed Ghozzi
(محمّد الغزّي/ الثلاثاء 30 جويلية 2019…..)
سألني وقد شحب وجهه حتّى ظننته ينسحب منّا:
– هذه لغتي، وأنفاسي وبصمتي وروحي. ولا أشكّ للحظة واحدة بأنّها قصيدتي، وأنها قطفي، حتّى وإن كان الزّمن غير الزّمن، ولم يحن قِطافها بعد….على ما أظنّ….
بل وربّما هيّ أروع وأصدق ما سأكتب… وأنا أعتذر لك بشدّة، ولولا الحياء لقبّلتُ رأسك. لكنّك خرجت عن الموضوع يا ولدي فكلّ المطلوب منك هوّ الحديث عن الخنساء ورثاء صخر وليس عن محمّد الغزّي ورجاء سنة 2019….
قلت: – معك حقّ يا سيّدي…. وأنت كتبت للتّو ما عجزت أنا عن كتابته وحدي…
– وماذا كتبتُ معك أيّها المجنون؟!
– بُورتريه (محمّد الغزّي)….آخر بُورتريه أكتبهُ يا سيّدي
وسأرسله فورًا لسيّدنا الخِضر العادل. فهو الذي فتح لي هذه الكوّة فرأيتُ ما رأيت….
(كمال العيّادي الكينغ)
من كتابي الجديد:
(خمسون بورتريه وبُورتريه)
يصدر الشهر القادم عن دار المسار بتونس
Discussion about this post