(ذِكْرَى… ذِكْرَى.):
– مع حلول سنة 2023، تكون قد مرّت عشرون سنة على مقتل الفنّانة ذِكرى مُحمّد، التي تلقّت ستّة وعشرين رصاصة من رشّاش صوّبه نحوها أيمن السّويدي، زوجها المصريّ، المُضطرب نفسيّا, قبل أن يُنهي حياته بطلقةٍ من مسدّس. وكان ذلك مساء جمعة أسود في الثّامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 2003. (وثمّة من يتّهم فرقة – المنشار – بالمخابرات السّعوديّة بتصفيتها، بعد أدائها لكلمات أغنيّة ليبيّة، يُقال أتّها من تأليف معمّر القدافي نفسه، تنتقد النظام السّعودي بشدّة).
: عرفتُ ذِكرى محمّد سنة 1987، كنتُ جالسا بمقهى (الأنترناسيونال), بشارع الحبيب بورقيبة وكان يجلس معي الشاعر المرحوم صلاح الدّين ساسي…فجأة رفع رأسه وقال لي، سنجدُ حلاّ للقميص والحذاء يا قيروانيّ، هاتِ الخمسة دنانير التي معك، ولن تندم.
كنتُ أريدُ أن أشتري حذاء بدل حذائي المثقوب وقميصا أزرق من الروبافيكا، وأعود بهما إلى القيروان، ولم يكن في جيبي غيرها, وهي معلوم سيّارة الأجرة والسّجائر وقهوتي أيضا…قلتُ لهُ، ليس لي غيرها يا مجنونْ، فأجابني، إبشر، نسيتُ أن ذكرى في ابن خلدون..قلتُ له أهذه قصيدة مبتورة يا فساد الدّين؟!…فأقسم بأمّه أنّني لن أعود الى القيروان مساء إلا بحذاءٍ جديدٍ وقميصٍ أزرق. ولو حلف لي صلاح الدّين ساسي بأمّه أنّه سيحرّر القدس في يومين لصدّقته. أعطيته الورقة، فدفع حساب الطّاولة ووهب النّادل الفظّ ثلاثمائة مليمًا, فسألتهُ بغيظٍ، عمّا يعنيه بأنّ ذكرى في ابن خلدون. طبطبَ على كتفي وهو يسحبني، وفسّر لي الأُحجيّة في جملتين، الفنّانة ذكرى محمّد الآن في دار الثّقافة ابن خلدون، وقد تشترى منه أغنيّة جديدة، وإن لم تفعل فكفّها نديّة ولن تخذلنا.
وحين وضعتُ في يديها النّحيلة يدي، ولم أكن أعرفها كفنّانة، تذكّرت أنّني رأيتها عشرات المرّات وهي أصغر وأكثر سمرة في خزندار حيث تقطن أختي الكُبرى.
لخّص لها صلاح الدّين ساسي الحكاية في جمل قصيرة كعادته، وقال لها بطريقةٍ فجّةٍ أحرجتني، بأنّني لن أعود القيروان حافيّا، أو بمثل هذا الحذاء.. كان يوم إربعاء، أذكره جيّدا، السّادس عشر من سبتمبر، عانقتني ضاحكة، وقالت لي أنّ اليوم هو عيد ميلادها، وأنّها كانت تُريد أن تشترى أحذيّة وفساتين وأن خطيبها من عائلتي وهو الملحّن عبد الرّحمان العيّادي، وأنّه لو عرف بما ستفعل لقامت قيامتها، وأدخلت يدها في حقيبتها وأخرجت ظرفا أصفر، ووضعتهُ مُغلقا في جيب مِعطفي المهترىء. وداعبت شعري بحنانٍ وهي تُشير للتّاكسي.
حين فتحتُ الظّرف بلهفةٍ وقلبي مِروحة، وجدتُ خمسين ورقة خضراء من فِئة العشرين دينارا تلمعُ لم تمسسها أصابع إنسانٍ غير مُوظّف البنك. ألف دينار كاملة، أو كما كنا نقول (مليونْ) في وقتٍ كانت فيه مِنحتى الشّهريّة كطالبٍ لا تتعدّى الأربعين دينار…وبكيتُ يومها بحرقةٍ.
وإلتقينا بعدها عديد المرّاتِ، وأعدتُ لها المبلغ بعد سنواتٍ عديدةٍ، ولم تقبله إلاّ في شكل هديّة، سعيتُ ان تكون لائقة…ويوم سماعي بخبر موتها في مثل هذا اليوم، من سنة 2003، وأنا أدرّس اللّغة العربيّة، تطوّعا، لأبناء المهاجرين بمونيخ، طلبتُ من الطّلاب الخروج، وتمَاسكتُ، ثم إنفجرتُ بالنّشيج وانفجر الدّم من أنفي بغزارةٍ..ومن يومها لم أبكِ كما يبكى البشر بالدّموع، بل كانت عيني تنزف دما..
**(كمال العيادي الكينغ)**
– من كتابي الجديد: خمسون بُورتريه وبورتريه
Discussion about this post