سيدة عشتار بن علي تكتب …الحنش العاشق
صحيح أنّنا دون استثناء نخشى الثعابين وترتعد فرائصنا لمجرد ذكرها لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أنّ هناك ثعابين طيّبة وغلبانة كما يقول المصريّون ..عرفت هذه الحقيقة منذ أيّام حين أقمت بنزل في احد المدن السّياحية ..كنت أقوم بنزهة في حديقة النزل المترامية أطرافها واذا بثعبان مبين يخرج علي زاحفا على بطنه من أحد الجحور التي من الصّعب أن يتنبّه لها العمّال..تملكني الرعب وخفت ان يثب علي فكان رد فعلي طبعا هو اطلاق عقيرتي بالصراخ وطلب النّجدة لكن كنت في مكان منزو ولم يسمعني أحد …تجمّدت في مكاني حين رأيت الحنش يسرع نحوي فاغرا فما واسع الحشو ..أغمضت عيني واستسلمت لقدري…يقال أن مواجهة الأسد في وسط الميدان أفضل من مواجهة الثعبان داخل الحشائش.. هيّأت نفسي..سوف يتسوّرني ..سوف يبتلعني فالثعابين ذات الحجم الكبير من هذا النوع معروفة بالشره والنهم وسرعة الابتلاع..بعد لحظات سوف أعمه في ظلمات بطنه ..فتحت عيني حين سمعت الحنش ينطق كما ينطق جلّ البشر وبلهجة تونسية قال لي وهو يحرّك لسانه محاولا تهدئتي
-ما تخافش ..مانيش باش نعمل لك شي
تملّكني الذّهول حين سمعته يتكلّم ..نعم كان يتكلّم .. رددت بيني وبين نفسي بصوت مرتعش ..يا الهي ..ما هذا ..حنش يتحدّث بلهجتنا فإذا به يرد
– نعم أتقن عدّة لهجات وعدّة لغات أيضا فصاحبي مدرّب الأفاعي جاب بي أنا وبعض الزملاء من الثعابين عدّة أماكن من العالم كي يقدّم عروضه…نحن الثّعابين مصدر رزقه وهوايته أيضا ..أنا حنش طيب وولد باب الله ثم أردف بلهجة عربية فصحى قال.. اسمي ابو عثمان وهناك من يسميني بابي البحتري واخر بابي حيان ..أنا شاعر ..لا تفزعي ..لا تقلقي فلست بلاسعك ..فقط اسمعيني فأنا هنا لأني أعاني من آثار هزّة نفسية بل صدمة عنيفة ..أنا هنا أقف على الأطلال لأنّي مشتاق والشوق يكاد يفتك بي رغم معرفتي بالحقيقة …تبّا للغرام ..تبّا لغبائي ..تبّا لضعف نظري الّذي ابتليت به
شدّني كلام الحنش رغم أني كنت تحت تأثير الصّدمة ..كيف ينطق الحنش وهو كائن غير عاقل ولا ناطق ..انه حيوان بل هو من الزواحف القاتلة والأغرب أنه يبدي لطفا وضعفا ومع ذلك استجمعت شجاعتي وبحذر أبديت اهتماما واستعدادا لسماعه رغم خوفي الشديد…طبعا ألم يقل الشاعر عنترة …إِنَّ الأَفاعي وَإِن لانَت مَلامِسها عِندَ التَقَلُّبِ في أَنيابِها العَطَب….من بعيد خاطبته :
-اخاف غدرك أيّها الثعبان ..معروف عنكم أنّكم تقتربون بهدوء من الانسان وبنعومة تلدغونه وتبثّون سمّكم القاتل فاذا به يحرك لسانه ورأسه ويردّ متوتّرا:
-لا أغدر منكم أيها البشر ..على الأقل نحن الثعابين لا نلدغ بعضنا البعض مثلما تفعلون …أثارني كلامه وتذكّرت شكواه بأنّه تعرّض إلى هزّة نفسية .. فدفعني فضولي إلى سؤاله …قلت انك تعرضت إلى هزة نفسيّة ..غريب ..هل للحنش نفسية ..هل يحزن ويفرح ويصدم تماما كالبشر..ماانت الا حيوان زاحف من ذوات الدم البارد..هذا ما اعرفه عنك
تثاءب الحنش و أجاب معاتبا وقد انتصب واقفا على ذيله محركا رأسه :آه منكم يا معشر البشر كم أنتم لئام وناكرون لفضلنا عليكم
-عن أي فضل تتحدّث أيها الحنش …
-نحن الثعابين نحافظ على بيئتكم ونساعدكم على التخلص من الأعشاب السامة باكلها ….نحن ننظف حقولكم من الحشرات الضارة. والفئران والقوارض…تعتقدون اننا كائنات لا دور لها في الحياة الا الايذاء وكذلك تعتقدون اننا لا نشعر ولا نحس …غروركم صوّر لكم أن الإحساس حكر عليكم ولذلك تؤذون بقية الكائنات وتقتلونها في اعتقاد منكم أن لا احد يستحق الحياة على هذه الأرض غيركم…كم أنتم متناقضون يا معشر البشر تخافون منا ونثير فيكم الرعب والاشمئزاز وفي نفس الوقت نثير فيكم الإعجاب والمتعة
أجبته وأنا امطط شفتيّ استغرابا وقد ذهب كل خوفي مبدية اشمئزازي وسخريتي …
-عن أي متعة تتحدث
أنا حنش شاعر ورغم أنه معروف عنا نحن الثعابين أن ذاكرتنا ضعيفة الّا أنّي أحفظ الكثير من قصائد البشر..ألم يصف شعراؤكم القدامى حين يتغزّل أحدهم بأنثى بأنها خميصة البطن كالثعبان…يتغزل بها وفي الوقت ذاته يلعنها ويعتبرها صنو ابليس وينسب إليها كل شر…نحن الثعابين نبهركم في الحقيقة والا ما كانت الراقصات يقلدن حركاتنا في رقصهن وعروض اغرائهن …نحن الثعابين رمز للعظمة الملكية أيضا
سألته: لم تخبرني عن أسباب الهزّة النفسية التي تعرّضت لها أيها الحنش الغريب ..انتصب واقفا لَحْيه الأسفل فِي الأرض وَالْأَعْلَى عَلَى غصن شجرة عملاقة .. تنهّد وقال
– أنا هنا في هذا المكان منذ الصّيف الفارط ..دخلت الى هذا النزل مع مروّض الأفاعي الّذي ربّاني أنا ومجموعة أخرى من الثعابين وعلّمنا فن الاستعراض
-هل تقصد ذلك الشخص الّذي يرقّص الحناش على أنغام النّاي ونسميه نحن الحاوي
_نعم بالضبط
في الحقيقة كثيرا ما تساءلت كيف كان المتخصصون في تربية الثعابين يستطعون الاحتفاظ بكم في صندوق أو جراب لأعوام طويلة خاصة وحسب معرفتي أنتم كائنات معمّرة وتعشق الحرّية
-طبعا لا نبقى محبوسين دائما ….مربّينا يمتلك مزرعة في مراكش أنشأها خصّيصا لتربيتنا وتدريبنا وفي الحقيقة هو لطيف معنا ويفعل ما بوسعه من أجل راحتنا ويوفّر لنا ما يلزمنا من الغذاء وكذلك لا يزعجنا أثناء فترة التّزاوج لكن هناك أوقات مناسبة للعمل ..هذه هي مهنته وقد جاب بنا عدة مدن وعدة بلدان من العالم الى ان حلّ بنا الرّكب هنا في تونس وتحديدا في هذا النزل …صاحبنا لا يفارقنا …نحن جزء من حياته اليومية..أحيانا ننام إلى جانبه ويلاعبنا كما لو كنا أطفاله ..لقد تبنّاني منذ كنت فرخا صغيرا..كنت سهل الاصطياد
-وهل علمكم هو الرّقص …أريد أن أراك كيف ترقص
-أنا مكتئب الان …لا أريد
-أرجوك
-اذن يلزمني عزف النّاي كي أرقص
أدخلت يدي الى جيبي وأخرجت هاتفي الجوّال وقمت بتشغيل موسيقى النّاي التي تروق للثعابين فاذا بالثعبان تنتصب قامته الفارعة وتنتفخ مقدمة رأسه كما لو كان يقدم تحيّة عسكريّة ثم تنتفخ أوداجه وراح يتراقص يمينا وشمالا مركّزا عيناه في عيني ..كان منظره مثيرا ومخيفا بدا لي كأنه كائن أسطوري انبعث من زمن غابر …اندمج الحنش في نوبته …كنت اسمع دبيب ذيله على الأرض فاستبدّ بي الذّهول ولم انتبه الا على صوته المباغت وقد اقترب مني وجها لوجه وكأيّ رجل جنتلمان خاطبني باللّهجة المصرية وهو يلهث ويذبدب لسانه
-تسمحي بالرقصة دي ….
تراجعت الى الوراءوقد ارتعدت فرائصي ..يا الهي …هل يعقل ان أرقص معه وهل لديّ القدرة على مراقصة الثّعابين …كان منظره مرعبا وأمام ذلك الموقف المهيب المروّع لم يكن بامكاني أن اتظاهر بالشجاعة وأجازف بالرّقص معه فقد سمعت عن الكثير من حكايات ملوك التعويذات والحوّائين الذين لقوا حتفهم بسبب لدغات أفاعيهم.وما يسمى بقبلة الموت فمابالك بي أنا الّتي لا أحتكم على أي سرّ من أسرار الثعابين وفنون ملاعبتها …بدا الغضب على ملامح الحنش لأني تراجعت الى الوراء ورفضت مشاركته الرّقص وكان واضحا من حركاته المتوترة أنّه عزم على مهاجمتي كردّ فعل على جرح كرامته بالرفض ..حينها استجمعت شجاعتي وأبديت كل ما أملك من القدرة على التملّق
-يا الهي كم أنت رائع ..كم أنت مذهل …وانت ترقص بدوت لي كأنك امبراطور عظيم وكذلك اتقانك للهجة المصرية وكل اللهجات شي لا يصدقه عقل
حينها انفرجت أسارير الحنش وتراخى جسمه المتأهب للانقضلض وعاد اليه هدوءه …الحلّوف لقد أرضيت نرجسيّته المجروحة
-طبعا أنا حنش عبقري في كل شيء ..انا ربّ الرقص وربّ الشعر…هل تعرفين سامية جمال الراقصة المصرية …لقد تعلّمت الرّقص مني …أنا أيضا رمز الطّب ..ألم تري رمز الحية والكأس مرافقاً لشعار صيدلياتكم ومستشفياتكم … ايه ..رحم الله الحكيم الإغريقي “اسكيلابيويس”..كان أول من عرف قيمتنا وأدرك قيمتنا …نحن الثعابين رمز للعظمة الملكية أيضا …ألم تري تيجان المصريّين على رؤوس تماثيلهم وتحفهم الفنّية ..فرعون نفسه كان يخشانا ويهابنا وأنا ثعبان أصولي فرعونية وقد خبّرني صاحبي الّذي ربّاني أنّي من عائلة الناشر وهي من أكبر عائلات ثعابين مصر لذلك صورنا منحوتة على النقوش المصرية القديمة وعلى تيجان ملوكهم وملكاتهم وكذلك على ملابسهم …أفتخر بتاريخ أجدادي لولا تلك الفعلة التي قامت بها زوجة عمّي الشرّيرة حين أجهزت على كليوباترا الجميلة بلدغتها
أبديت انبهارا ممزوجا بالتعاطف والحزن كي أغير مجرى الحديث ويلين أكثر
-يالك من كائن عظيم لكن على ما يبدو لم تأخذ ما تستحقه حقا من الحياة ويبدو أن حظك من الحب ّ قليل …لقد أخبرتني أنك تعاني من هزة نفسية بسبب العشق والغرام ….اخبرني ماذا حدث معك أيها الحنش الرّائع ..أيها العظيم ..من هذه الحنشة الحمقاء الغبيّة التي تسببت في ألم وحزن حنش عظيم .. وسيم.. وبطل شهم وموهوب مثلك
ارتخت أجفاتنه كما ارتخى جسمه أكثر وذبذب بلسانه من شدّة انبساطه ورضاه لما أمطرته به من معسول الكلام والمدح
-نعم أنا قويّ وعظيم ووسيم وتاريخي مجيد لكن للأسف لم يهزمني غير الحبّ وليته كان حقيقيا .. منذ عام كنت مارّا من هنا بالصّدفة بحثا عن جرعة ماء بعد أن تسلّلت من صندوق صاحبي الحاوي المقيم في هذا النزل …لقد أدخلنا خلسة الى غرفته في إحدى حقائبه وحرص على أن لا يرانا أحد لأن وجودنا في مكان كهذا ممنوع لكن فضولي وسوس لي بأن أتسلل لأستكشف المكان.. لقد سئمت من الوصاية ونحن كائنات تعشق الحرّية كما تعرفين ..جبت جميع أرجاء الحديقة على اتساعها الى أن شعرت بالعطش بما أن الطقس كان صيفا ولم أحسب حسابا لذلك …كنت أبحث عن جرعة ماء وفجأة لمحت حنشة بارعة الجمال ..شقراء ..هيفاء ..هادئة ورصينة ليست كبقية الحنشات وهذا أكثر ما شدني اليها ..لا أخفيك اعتقدت انها حنشة فرنسية أو ألمانية وقلت في نفسي لم لا أصاحبها فأكسب بذلك مرتين …أكسب الحبّ من ناحية والاقامة في بلد أوروبي يحترم حقوق الانسان والحيوان والزواحف من ناحية اخرى ….حاولت لفت انتباهها لكنها كانت خجولة والحياء جعلها لا تجرؤ حتى على النظر الي…..أيام وليال وأنا ألفّ وأدو ر حولها دون أن تسمع صوتي ..أحببتها ..عشقتها ومن أجلها صبرت على أذى الجوع ..كم من أيام قضّيتها على الطّوى …كنت شجاع البطن ..كنت باسلا في مقاومة السّغب و مضضه فهذا المكان كما ترين مبالغ في نظافته ولا قوارض فيه يمكن لي ان أصطادها ونادرا ما كنت انجح في اصطياد أحد العصافير وأغلب أيّامي كنت أتغذى على عصارة بعض النباتات حتى مللت الانتظار… قررت بعد أشهرطويلة من الكتمان أن أواجهها وأبوح لها بمكنونات قلبي.. عيل صبري خاصة حين حلّ فصل الرّبيع وما عدت أطيق تجاهلها وكما تقولون انتم البشر فاز باللّذة الجسور ..قررت أن أتخلّص من خجلي وتردّدي وأكون جسورا ..اقتربت منها وانتصبت واقفا على ذيلي أمامها علها تعجب بطولي وجسمي الممشوق …حرّكت لها رأسي وذبذبت لها بلساني لكنها للأسف لم يصدر منها أيّ ردّ فعل ..حينها…قلت لنفسي قد تكون هي أيضا خجولة لذلك عليّ أن أكون أكثر جرأة…اقتربت منها أكثر وغازلتها…هسهست لها سائلا .. من أيّ أرض أنت يا مليحة ..أبنت جبل أنت أم بنت وادي …حاولت أن أغمز لها بعيني كما تفعلون أنتم البشر….كان صاحبي الحاوي الّذي ربّاني يغمز للنساء ويصفّر لللاناث حين يريد مغازلة إحداهن لذلك حاولت تقليده لكن لم استطع فقد خلقت بلا جفون …لم يبدر منها أي رد فعل حينها قرّرت أن أكون أكثر إباحية فقمت بالالتفاف عليها على أمل أن تدبّ الحرارة في جسمها فتتفاعل معي ونتشابك وننصهر معا …يا خيبة المسعى .. كانت جامدة باردة كتمثال ….شعرت بجرح في كبريائي واهانة لذكورتي فاستيقظت عدوانيّتي وصرت كالمخبول أعنّفها لاهثا وأنا أبحث في جسمها عن منفذ الانصهار كي أتزاوج معها رغم أنفها وليتني ما فعلت وراح يغني بصوت رخيم مؤثر لعبد الحليم حافظ
ليه تصحيني في وسط الجنة بنار
نار ودموع… دموع
كنت إرحمني وسيبني شوية أعيش
أعيش مخدوع… أعيش مخدوع
جحظت عيناي واحتقن الدّمع فيها من شدّة التّأثّر…الحق الحق هذه المرّة لم أكن أتملّقه بل تعاطفت معه بكل صدق فصوته كان رخيما ومؤثرا …سألت بصوت تخنقه العبرات :
-ماذا حدث أيها الحنش حين لمست معشوقتك الحنشة …أجاب :وجدتها جثة هامدة ..لا تتحرّك ..لم تكن حنشة بل خرطوم يستعمله الجنائني لسقي العشب في حديقة هذا النزل..تبّا لضعف نظري الّذي ابتليت به ..ها أني كما ترين مازلت تحت تأثير الصّدمة قابعا في هذا الجحر على أمل أن تحدث معجزة وتنفخ فيها الرّوح ..إنها حبيبتي حتى لو كانت جمادا ثم أجهش بالبكاء وراح يشهق ويغني مقطعا من أغنية عبد الحليم حافظ جبّار
عرفته قد ما عرفته ولا عرفتوش
وشفته قد ما شفته ولا فهمتوش
-سيدة عشتار بن علي –
Discussion about this post