الوزير رياض أغا يكتب…..
ذكريات أوربية 81
————-
طرائف بين بودا و بست 2
من طرائف ما حدث معي في بودابست ، أنني في اليوم التالي سالت أحد الأصدقاء السوريين عن مكان تصريف العملات في السوق السوداء لأن الفارق كان كبيراً في سعر الصرف بينها وبين السوق الرسمي ، فدلني ولكنه حذرني من أنني قد أتعرض لتمثيلية تبدأ حين أضع الدولارات في يدي لأسلم وأستلم ، قال قد يأتي أحدهم مسرعاً منادياً (بوليس ) عندها سيسود هرج ومرج وسيخطف من يصرف لك ما بيدك من دولارات ولن تستطيع ملاحقته لأن للنفق عدة مخارج وكل واحد منها يمضي في اتجاه ، لقد تعرض كثير من السائحين لهذه التمثيلية وفقدوا نقودهم ، شكرت لصاحبي هذه النصيحة التي أنقذتني ، ولكنني غامرت ونزلت إلى النفق الفسيح ذي المخارج المتعددة ، هناك وجدت ثلة من الشباب العرب وبعضهم سوريون يعرضون خدماتهم هامسين ( تشينج ) قلت لأحدهم : ما السعر اليوم ؟ قال بالعربية كذا ، قلت أريد أن أبدل خمسمائة دولار ، قال هاتها ، أخرجت المبلغ من جيبي ولكنني قبضت عليه من طرفه بقوة ، بدأ الشاب يعد لي رزم الفورنت (العملة المحلية ) وعينه على يدي ، وحدث السيناريو الذي حذرني منه صاحبي ، فقد دوى فجأة صوت شخص قادم يهرول صارخاً منذراً ( بوليس ) هنا جذب الشاب الذي يصرف لي ما بيدي من الدولارات ليهرب بها ، لكنه فوجئ بي ممسكاً بها بقوة ، قال وهو يفتعل الاضطراب ، هيا لنهرب سريعاً وإلا فسيأخذوننا إلى السجن ، قلت له ببرود : هيا اهرب أنت ، أما الدولارات فلن تأخذها ، كان كل من في النفق من حشد الصرافين قد هربوا كل في اتجاه ، لكن المنذر الذي صرخ وقف يتأملني مستغرباً برودة أعصابي ، و لم يهرب الشاب الصراف فهو ما يزال يجاذبني ما بيدي ، و كنت أخمن أنه سوري ، وقد صدق حدسي ، قلت له : أليس عيباً وحراماً ما تفعلون ؟ لقد أرسلكم أهلكم لتتعلموا وليس لكي تصيروا لصوصاً ، كان الشاب المنذر بديناً ، وقد فوجئت بأنه جمد في مكانه يتأملني بعمق وبنظرة متمعنة ، قلت له :هيه ، ما بك ؟ هيا اهرب ألست أنت الذي أنذرتنا بقدوم البوليس ؟ قال بلهجة مصرية ، أظن أنك أنت رياض نعسان آغا ؟ دهشت ، فكيف يعرفني المصري ولم يعرفني ابن البلد السوري ؟ ولم تكن الفضائيات قد ظهرت بعد لأظن أنه ربما رآني في التلفزيون ، قلت : نعم ، أنا رياض ، ولكن كيف عرفتني ؟ ضحك المصري وبدأ يسألني عن بعض أفراد عائلتي مما زاد في استغرابي ، إذن فالمسألة ليست معرفة صحافة أو تلفزيون ، إنها معرفة وثيقة ، قلت مندهشاً : كيف عرفت أقربائي أيضاً ؟ قال وقد بدا سعيداً بلقائه بي : كنت قبل عشرين عاماً أدرس في لندن وهناك تعرفت على أحد أبناء عمك وزرته في بيته ، وكان يضع صورة لك فوق جهاز التلفزيون ، وقد حدثني أنه صديق حميم لك ، قلت مستغرباً قوة ذاكرته : ويلك عرفتني من صورة قديمة رأيتها مرة ولم تتمكن من أن تعرف طريقاً أفضل للحياة ، ما الذي جعلك تختار هذه المهنة المخزية ؟ قال بأسى : فشلت في الدراسة .
كان الشاب السوري قد شعر بحرج شديد ، وعاد الشباب الهاربون وتجمعوا حولي وكانوا من عدد من الأقطار العربية ، واعترفوا بأنهم من فريق الضائعين المضيعين ( وهم بحمد الله قلة يسيرة من طلابنا المبعوثين الناجحين البارعين ) بينما هؤلاء الضائعون هم من أخفقوا في الدراسة ، وتقطعت بهم السبل ، وكنت مضطرا أن ألقي عليهم محاضرة في الأخلاق مع علمي بأنها لن تنفع في شيء فالحياة الجديدة التي جاءت بها العولمة إلى بودابست وأخواتها من مدن أوربا الاشتراكية أحدثت زلزالاً في القيم والأخلاق العامة و جرفت كثيرين للبحث عن ثراء سريع ، وفي الليل حذرت صديقي فردوس من أن أقضي الليلة وحيداً على شرفة الفندق رغم شاعرية المنظر ، فقال الليلة نسهر في (المون لاروج ) فثمة عرض باريسي أخّاذ ، اشترينا بطاقات من السوق السوداء ، وقال البائع ستجلسون إلى مائدة مشتركة مع آخرين . دخلنا في الظلمة نبحث عن مائدتنا ، ولم نتمكن من أن نعرف أحداً من شركائنا فيها ، وكان العرض المسرحي يخطف الأبصار ، فلما انتهى المشهد وأضيئت الصالة ، كانت المفاجأة المدهشة أن نجد أن شركاءنا في المائدة سوريون ومن أعز أصدقائنا في دمشق ، وهم الذين عرفونا في اليوم التالي على جاليتنا السورية التي نعتز بحضورها في أوربا ، حيث نخبة راقية من أطباء ومهندسين وعلماء ورجال أعمال كبار ، وكثير منهم أنهى دراسته وتزوج من مجرية وأقام هناك .
Discussion about this post