للكاتبة … شروق لطيف
وصل إلى المقهى القديم كعادته للإلتقاء بأصدقائه فى عطلة نهاية الأسبوع .
لم يكن بمزاج جيد هذه المرة، جلس فى وسطهم لكن لم تكن روحه تلتذ بالأحاديث الدائرة بينهم ففضل الإنزواء بعيدا ً على الكرسي المتاخم للنافذة لعله يجد متنفسا ً للترويح عن نفسه الثكلى ….
وإذ بقطرات خفيفة من المطر بدأت فى التساقط فوجد نفسه متلذذا ً بصوت نقيرها والتى تبدت وكأنها حبات من اللؤلؤ الذى يتساقط بإيقاع غير منتظم فتدغدغ مشاعره وتتسرب بين طيات سريرته التى طالما تأرجحت بين متناقضات الشعور من أمل ويأس رغبة ورهبة أنسة ووحشة فجاشت الذاكرة بمختلف اللقطات ومرقت أمام عينيه كصور حية قد انطبعت على زجاج النافذة .
وإذ إشتد هطول المطر وتزايدت النقرات وانتظم وقع رنينها فى أذنيه لتتحول الى صوت يشابه طرقات الأصابع ..
فتنبه بوجود خيال يقترب منه وإن كان غير واضح الملامح لكنه يحاول لفت انتباهه بهذا النقير
فلما تفرس فى القسمات انتابه الذهول فجأة إذ قد تيقن بأنها هى …..
حاول تكذيب عينيه لكن كيف يخطئ فى معالم من لا تفارق مخيلته ليل نهار؟!!
فتساءل كيف أتت من سفرها البعيد وكيف توصلت الى مكان تواجده ومن عساه الذى أرشدها على الطريق ؟!!
لكن فى خضم تحيره وسيل الأسئلة التى راودت تفكيره وجدها تشير له بالخروج فلم يتردد بل هم ً مندفعا ً من الباب دون حتى أن يبدى عذرا للأصدقاء ..
أشارت له باتباعها فى طريق الغابة التى تقع فى نهاية تخوم البلدة ، أخذت تعدو وهى تتبسم قائلة له :
إذن فلتحاول أن تلحقنى …
فظل يركض وراءها حتى تبدت له كظبية رشيقة نافرة إلى مكان سكناها حيث الجبال العالية .
أخذه حب الإستطلاع للخوض فى هذه المغامرة دون احتساب لنتائج المخاطر متطلعا إلى السعادة العارمة المنتظرة له بالنهاية …
حتى وصلت إلى شجرة الزيزفون العتيقة التى تتوسط جوسق كبير عامر بالأشجار كثيفة الأغصان فقالت له :
أتدرى ما الذى جاء بى اليوم ولم ناديتك فى هذا المكان بالذات ؟!
وقبل أن يفكر فى الرد باغتته بالإجابة :
أتيت كى أحقق حلمك القديم ….
ألم تذكر لى سابقا ً فى إحدى رسائلك أن كانت من أمنياتك منذ عهد الصبا أن تراقص محبوبتك تحت المطر وها قد جئت لأحقق حلمك وليكن الآن فهل لك أن تقبل دعوتى؟!!
ازداد عجبه فرد قائلا ً :
لقد أوشكت أنا على نسيانه أفتتذكرينه أنت ِ؟!!
قالت : من يحب بصدق لا ينسي حرفا ً من محبوبه إذ يكون قد حفر فى الوجدان ونقش بعمق على جدران الجوارح فلا يمحى مهما طال الزمان ….
فأسرع بمد يده كنوع من اللباقة ليبادرها بطلب هذه الرقصة الفريدة والتى طالما حلم بها ..
وقبل البدء استعدت الطبيعة للإشتراك فى تلك اللحظات الآسرة فاصطفت البلابل وبدأت فى إصدار أعذب الألحان لتكون بمثابة جوقة الموسيقى المصاحبة لهما .
والرياح داعبت الأفنان لتصدر حفيفا ً عذبا ً فى الأسماع
أما النجوم ازداد التماعها كثريات تلقى على وجهها ضياءا ً من عذب لجينها فتبدت فى عينيه كقمر فى لحظة اكتماله فأسرع بلف ذراعيه حول خصرها وكأنه احتضن الكون بأسره وشعر كأن الدنيا التى عاندته مرارا عادت لتصالحه وتحقق له حلمه المنشود بأروع مما كان حتى يتصوره …
وبدئا فى الرقص والإلتفاف فى دورة كاملة حول شجرة
الزيزفون حتى أن الطمى الرطب والمبلل بالأمطار تحت أرجلهما ساعدهما على نعومة الحركة وليونة القوام فكادا يطيران من شدة السعادة والمرح كعصفورين انطلقا إلى رحب الفضاء لتشهد علي قصة حبهما هذه الشجرة العتيقة والتى طالما أعهدها العاشقون على قصص حبهم منذ عشرات السنين ….
لم يعرفا كم مر من الوقت الذى لو بيدهم لم يدعونه ينفذ أبدا ً لكن جلسا قليلا ليلتقطا أنفاسمها وشعرا بأنهما كانا يرقصان فى ساحة الإليزيه فى ظل هذه الأجواء الساحرة والتى تبدت أشد ألقا وأكثر إبهارا ….
ومع نسمات الليل الباردة خلع معطفه ليدثرها به قائلا لها :
آه لو تدركين كل ما أود أن أقوله لن تكفى الدواوين حتى تمتلئ بفيض مشاعرى …
وفى نفس تلك اللحظة بدأ يتلعثم وكأنه بدأ بفقدان القدرة على الكلام إذ بدأ فى الشعور بقشعريرة برد قد غزت أوصاله وأرعدت فرائصه
واصطكت أسنانه ببعضها ليختلط صوتها فى أذنيه بصوت يشابه ارتطام المعدن لجدار زجاجى فتساءل ما الذى انتابه ليتفاجأ بسماع صوت النادل يدوى فى أذنيه قائلا له :
وها الشاى الساخن قد وصل فى ميعاده المناسب يا أفندينا وإذ به يحرك الملعقة ليذيب السكر فى حركات دائرية منتظمة فأدرك حينئذ ما كان مصدر الصوت…
ليباغته بالحديث قائلا:
يبدو عليك الشعور بالبرد فهل أغلق لك النافذة التى فتحتها منذ أكثر من ساعة ؟!
فاومأ له برأسه بالإيجاب والحسرة تعتصر قلبه إذ قد تيقن أن كل ما مر ً عليه من لذيذ اللحظات لم يكن سوى غفوة من الخيال ليتمتم قائلا ً :
وان استطاعت تلك الكوب الساخنة بأدخنتها المتصاعدة منها أن تدفئ أوصال الجسد
فمن ذا الذى يستطيع أن يطفئ غليل الروح
سوى العشق وحده الذى سيظل مصدرا ً لدفء القلوب …….
Discussion about this post