الصمت في حرم الجمال..جمال
قراءة تحليلية بقلم
الأديبة العراقية / د. جمانة الزبيدي
لنص * تعاشق *
للأديبة السورية / ريم محمد
تعقيب بقلم
الأديب المصري / محمد البنا
…………………..
النص
تعاشق….
_________
مع خُيوطِ الصَّباحِ الأولى ، فتحتُ عينيّ وذاك البريقُ المتلهّفُ يُعانقُ قزحيتي، طارداً منها كل مالايخدم صباحها الألق،
وعلى عجالةٍ ،أسكتٌّ معدتي بلقمتين سريعتين ودفقة ماء ،
الوقتُ ينسابُ كذراتِ الرّمل من عُنق الساعة ، شعوري يسبقه بكثير ، حتى أنني جاريته فسبقته، أذرعُ الغُرفةَ جِيئةً وذهاباً جسدي يصولُ ويجول ، وكأنّ روحي معلقةٌ من ذروتها، وباضطراد تزداد وتخبو ، إلا في ذلكَ الإتجاه….
نظرتُ بإتجاه النافذة نحو بقعتي المفضّلة ، قلبي يصعدُ ويهبط بطرقاتٍ مُتسارعة كقرعِ الطبول، …..
ناداني الحنين حتّى أكل مني مأكلهُ، فلم يرفّ لي جفن ، ولم يتعّظ منّي العقل، جهّزت نفسي على عجالةٍ ودون أن أنبس ببنت شفة، أسرجتُ حصاني ومضيت، ولشدّة لهفتي نسيت القوس والنّشاب.
– وما فائدته صيّاد بدون قوسه ونشّابه؟!
همهمت مبتسماً وقانعاً
مضيت بفرسي وأنا أحاور وأناور يمنةً ويسرة، باحثاً عن بقعتي المثالية، أخيراً أذعنتُ رغماً عنّي لضيق الوقت، لن أتراجع ، لهفتي لمقابلة سربِ الغزلان تقضَّ مضجعي، وعلى ذلك الأمل، حكت ثواني الانتظار، بلهفة عاشقٍ لن يتوانَى عن لقاء معشوقته..
نزلتُ عن جوادي، أخفيته في منطقةٍ خفيضة، بعيدةٍ عن الميدان، أحطتهُ بما يحتاجه كي لايقاطع جنونَ لهفتي..
جلستُ خلفَ أكمةٍ متواريةٍ بين الأشجار، وأيقظتُ جميع حواسي، جمعتها في مقلتيّ وقد عقدتُ العزم على اللقاء، فما كان منّي إلا أن غلبني توقي في تلك اللحظات، أثخنتُ انتظاري بلهفةِ الشوق، وسألتُ نفسي..
– تُرى…ألم يحن الميعاد؟!
ولم أكد أنهي تساؤلي الكتيم، حتى سمعتُ خطواتهنَّ الرّشيقة تقترب…ورغماً عنّي ارتجفت يدايّ، وبحركاتٍ لا إراديّة بدأت تبحث، أقنعتها بصعوبةٍ ليس لها مثيل بالاستسلام؛ فأنا بدون سلاح في مواجهة سرب الجَمال!
انساب العِطرُ بين أناملي فوّاحاً لدرجةٍ أنني شممتهُ بروحي قبل أنفي..نعم ،ثَملتْ..
تململتُ في جلستي وإذ بظبيةٍ ترمقني بنظرتها؛ فالتقت عيوننا في حديث خُيّل إليّ أنّه طويل..
أنا أناديها وهي تجيب.. واختفى السّرب بجمالهِ الآسر دون أن تطوّقهُ عينيّ؛ فلقد طوّقه قلبي..
كوخي الجبلي يعي كل دفقاتِ شعوري منذ وطئته زائراً، حتى تملّكته ذات حنين ، فتملكني الدفء واستحلّني كما استحلّ ذلك البريق مكانه الملكيّ في دهاليز عقلي ، وأثخن شراييني برغبة اللقاء والوصول، دون أن أعي حقيقةَ كَنهِ ذلك العشقِ الأسطوريّ وماهيتهُ، بيد أنني وفي كل مرّة أتناسى- عن قصد – ذلك القوس والنّشاب..
هذا اليوم رأتني إحداها، تلاقت عيوننا وتحدّثنا، كم كانت جميلة وهي تحرك أذنيها باحثة عن سيل حروفي الذي لم أنطِقه ، بل استساغته عيونها….
نهضتُ على إثر ذلك مترنحاً، ثملاً، أفتّشُ في الأرجاء، وألعنُ الحظّ الذي لم يسعفني – كعادتي- ومشاعري المتناقضة تحيكُ ثوباً من طُمأنينة واهية ، أما عينيّ ،تطارد ذلك الأثر وطُرقاتِ قلبي في إثرها تعزفُ وأستمع…
في طريقِ عودتي ، طويتُ المسافات حتى الباب -كعادتي- مع حصاني، بيد أن عينيّ بقيتا هناك…
تمت
ريم محمد..سوريا في ٢٨ يوليو ٢٠٢٢
القراءة
الله..الله يامبدعة
قيل (الجمال في عين الرائي)
وهنا نرى الجمال تجسد بذاته وتمحور كهيئة قدسية أدخلت الناظر والمنظور في حرم ملكوتي ليتبادلا الأدوار فيقع الصياد فريسة..
قصة رائعة نحت بها الكاتبة لصوفيات التعلق واستشعار الجمال، بدأت من عتبة القص،حيث أختارت عنوانة دقيقة ذات بعد دلالي عميق فالعشق معناه الحب والتعلق الشديد ولكن الكاتبة استخدمت مصدرا للمفردة (تعاشق) والتعشيق مصطلح دلالي ( مصطلح يستخدمه النجارون ، وهو يشبه معنى الترس أي عجلة مسننة تدخل أسنانها في نقرة أو تجويف متطابق معه موجود في عجلة مسننة أكبر .) فتتسمر العجلة الأولى بالثانية فلا تنفك عنها ولا تبتعد!!!!!
وهذا ماجسّدته العلاقة التجريدية بمتعلق الجمال وناظره،
صياد ماهر يتحين الفرص للإطاحة بفريسته،يعد الأيام والليالي على جمر التوق والإنتظار ليظفر بصيده ،يتهيأ ويساعده الظرف المحيط به (هدوء المكان،أكمة توارى خلفها،تكاثف الأشجار للمواربة، تيقظ الحواس للأمر المنتظر)
حتى إذا بدت وهي تنقل خطوها برشاقة بين اترابها من القطيع، تلتقط عيناه جمالها الأخاذ الذي يعكس جمال الطبيعة وإبداع خالقها في تصويرها، لينكص متراجعا عن صيدها ،عاشقا لنظرتها البسيطة الفطرية، مشتاقا لموعد ضربته عيناهما لحظة التقتا..لغة شعرية منسابة باسترسال هادئ يتناغم والحدث الذي عزفت عليه الكاتبة،فلقد اعتدنا التغزل بجمال المرأة وتبيان مفاتنها التي أوهت الجَلِد،وأنطقت الشاعر،وتناول الآخرون جمال الطبيعة، ولكن كاتبتنا نحت بالجمال منحىً رائعا حينما أبرزته بهذه الصورة المذهلة، وكأن لسان حالها يقول(الصمت في حرم الجمال جمال) بروحية صوفية تجرّدت من أنانية البشر وتلويثهم للجمال الفطري للطبيعة، احييك أ.ريم واتمنى لك التوفيق والتألق
د. جمانة الزبيدي ..الناصرية في ٢٨ يوليو ٢٠٢٢
…………………..
التعقيب
نص أدبي ينتمي بامتياز لأدب الجمال، وهل هناك أجمل من الطبيعة بكل جزيئاتها، وقوس وسهم لا يطلقه صائد!
هكذا أخذتنا ريم في رحلتها الصيفية عبر غابات ومروج فسحرتنا، وكانت من قبل بثت فينا لحظات قلق بطلها وتوتره وشغفه..سرب غزلان يرعى وصائد يتربص ويتحين فرصة للقنص، فاقتنصته نظرة غزالة بسحر عيونها وبراءة محياها.
وقراءة وضعت مجملها في جملة واحدة ( الصمت في حرم الجمال..جمال ).
أستاذة علم نفس تقرأ نفس البطل، قبل أن تقرأ أفعاله وردود أفعاله، وأستاذة نقد تعرف أين تضع مبضع تشريحها للمتن وعنوانه، فينفتح طائعًا مطواعًا دون ألمٍ لجرح، بل سعادة وغبطة، وي كأنه يقول لمشرطها ” هيت لك ”
هنيئًا لك يا ريم بإطلالة جمانة، وهنيئًا لنا بمتعتين..متعة النص السردي ومتعة القراءة النقدية.
محمد البنا..القاهرة في ٢٨ يوليو ٢٠٢٢[د
Discussion about this post