دراسة لقصيدة الشاعر عصام سامي
الدكتور حمزة علاوي
لو عاد الأشرمُ أبرهةٌ
في زمنِ الألسنةِ الخرساءْ
العدلُ مريضٌ وضريرٌ
يتجـوّلُ من غير رداءْ
يبحثُ عن خبزٍ في الأرصفةِ
ويسألُنا عن قطرةِ ماءْ
والريحُ تدكُّ منازلنا
وتعيثُ فسادًا في الأنحاءْ
والجوع طريقٌ ممتدٌ
يرنو للجوعي باستهزاءْ
قد سرقوا الحنطةَ
ما تركوا
من تلك الحنطةِ
غير هواءْ
***
لا أملك إلا ذاكرتي
وبعض شجيرات الزيتون
لا أملك إلا ذاكرتي
وبقايا العقل المجنون
فاعذرني إن صرتُ رمادًا
في زمني
زمن الأشباحْ
بعضُ نباتاتٍ في أرضي
نبتت بسفاح
****
من دون ملامحِ يا زمنٌ
يقتاتُ على فقر الفقراءْ
ووقود الحربِ هم الفقراءْ
وأوراق صناديق الساسةِ
يوم الزينةِ
ينتخبون الأعضاءْ
ويموتون جياعًا مظلومين على عتباتِ من انتخبوهم
ورصيفُ الشارع صار “وكالة أنباء”
*
الرايةُ تدمي في كفي
والنصرُ حكايا للترفيه!
لو عاد الأشرمُ أبرهةٌ
لن يجد أبابيلا ترميه
فالأمةُ غرقى لا تدري
المَخرج من أرض التيه …
ترى العيون ما يجري ..الألسنة خرساء أصابها الشلل .. والثغر يهمهم من علة الهوس .. والخطوات أجهدها الألم .. والفكر منغمس بخيالات أعياها السأم . والجور عاد ليستوطن البلد .. والناس ترقص على جراحاتها من غياب العدل .. تضاريس الأرض اشدت ظلمتها لجور القائم على العدل .. يستخدم الشاعر عصام سامي المفردات التي تتقارب في مضمونها وتختلف في لفظها ، من أجل إعطاء مساحة للمتلقي للتفاعل مع الحدث القائم . تعبر الكلمات ”الخرساء ،مريض وضرير” عن دلالة عجز وقلق الانسان عن مواجهة واقعه . غاب العادل ، وغابت النقاط عن حروف الشريعة ، ولم يعد للقارىء متسع من الزمن ، وتبوأ الغاب المنصة ، ولم يعد للراعي خوفا من الرعية . يعتمد الشاعر ‘الرداء’ المخلوع كتعبير مجازي للدلالة على فقدان شرعيته القانونية . ارفد الشاعر نصه بنقلة مكانية تزامنت مع زمن الواقع ، فاصبح العدل متجرد الإفتاء .. يجوب الطرقات بحثا عن خبز وقطرة ماء .. أقفر العدل وتفاقم الفساد ، وبدء الطوفان يعم الأرجاء وغرقت أشرعة الديار ، وراح العدل يستهزأ بالحالي ، الخالي من رغيف الخبز وقطرة الماء .. سرقوا الخبز ..وعبثوا الأرض ولم يبقى سوى الهباء . يعول الشاعر في مقطوعته الثانية على تكرار ‘لا’ النافية ليعطي النص امتدادات من النفي وتهيئة مساحة جديدة لولادة صورة شعرية أخرى ، فضلا عن إطالة المد الإيقاعي للمقطوعة وكسر النسق الشعري لبدء تسلسل شعري جديد له امتداد جذري لما سبقه . أومأ تكرار العبارة إلى تأزم الحالة النفسية وعمق المعاناة والغليان الداخلي للشاعر . جردوه من كل شيء ، وبات خاوي الكلام بلا تناغم ، تفوح منه رائحة البركان .. لغته توطنها التأفف ..لا يملك سوى غصن السلام ، وبقايا العقل المجنون والمكنون… همد الجسد وصار ركاماً ، يجثوا على قدميه ، متكأ على جدار تؤرجحه الرياح القادمة من عالم الأشباح ..تصحرت الأرض وأنحنت الأشجار وجفت الأنهار ، ولم يبقى على الارض سوى ما أغرسه السفاح . تشير هذه المقطوعة الشعرية الثالثة إلى حالة التمرد على الواقع وتفويج همم المتلقي للتغيير . يحاور الشاعر الزمن بإنفعال ، فالآتي شبح ، فاقد الحس والملامح ، يفعم الأرض جوراً ، مخادع الكلام .. بعيدا عن المرامي .. يشغل بالهم بالعوالي وانعتاقهم من وضعهم الحالي ، لايهمه سوى التبوأ والمغانم لحظة الظفر بالامضاء. يقتات على حروف لغتهم الساذجة ، يستخدم التصحيف في وضع النقاط وفق ما يحلو له. يغتنم الجائر وهن الفقراء ، ويسوقهم وقودا للحرب ، أبرياء .. يجوعهم .. يلوعهم .. يسلبهم إرادتهم .. يساومهم برغيف الخبز .. ويرهبهم بالسياط ، إنها لغة الجلاد . توثق هذه الكلمات الشعرية سطوة الباغي ، واستثمار ضعف الفقراء .. وهذا ما يركز على المعاناة ، البؤس ، الخوف ، التخدير ، والقنوط ؛ كل ذلك يوعز الى تحطيم إرادة الإنسان كي يبقى تحت المطرقة والسندان. أبدع المكر والخداع في تحويل الفقراء الى أوراق الصناديق وزينة الساسة ؛ ينتخبوهم ويندمون بعدما يتنحون عنهم على أرصفة الطرقات . يجسد النص الشعري ثنائية الترغيب _الفقراء_ والترهيب _ البغاة ؛ الاستجابة والخوف ، الاغواء والاذعان . تعمل هذه الثنائيات المعنوية على أثارة الوعي ويقظة الضمير لدى القارىء . يشير الشاعر في مقطوعته الأخيرة إلى الشعب وهو يسفح دما عند عتبات غاب عنها العدل ، وراح السفاح يطرق المطرقة ويستخف بحكاية النصر . يعتمد الشاعر عصام سامي ناجي حالتي، الشرط غير الجازم والنفي ليحرك ذهنية وعاطفة المتلقي للبحث عن قصدية المقطوعة الشعرية ، ويوظف ، ”ابرهه الاشرم” كمعادل موضوعي وتاريخي للدلالة على البغاة وسفك الدماء ؛ كل ذلك يعبر عن دلالة القلق والرعب النفسي . يقوم الشاعر بتوظيف تناص الحدث التاريخي من أجل إعطاء النص قوة تعبيرية ، وتنوع الصورة الشعرية . يعزز الشاعر خاتمة نصه باستعارة ”أبابيل” وهي جماعات من الطيور كدلالة رمزية لها مسحة دينية وتاريخية تعبر عن مقاومة الغازي والظالم ‘ابرهة’ ؛ فغياب الابابيل :
غياب المقاومة لان الامة غارقة لاتعرف من أين المسير ، ومستضعفة عن مناهضة المهانة بحكم الجائرين والماكرين ؛ كل هذا يعبر عن الاخفاق وطائلة الطغاة على المال ورغيف الخبز . تجلت القصيدة بوحدة الفكر وعلاقة المقطوعات الشعرية مع بعضها ، والهدف هو المستضعفين ؛ كذلك فاقت بثنائية الظالم والمظلوم .
Discussion about this post