الهروب من الكتب إلى الواقع المرير بعيداً عن السيطرة …
كتب … عماد مصطفى حلب
العرض المسرحي “بعيداً عن السيطرة” الذي احتضنه مسرح نقابة الفنانين ضمن فعاليات مهرجان حلب المسرحي لعام 2025، ليقدم رؤية فلسفية عميقة حول العلاقة المتوترة بين العالم المثالي المتصور في الأدب وبين قسوة الواقع المادي المتسلط. تأليف الكاتب السعودي فهد ردة الحارثي وإخراج فادي محمد سعيد، الذي نوه ان العمل لم يكن مجرد أداء مسرحي، بل كان استكشافًا وجوديًا لمصير الشخصيات التي تحاول التحرر من حدود الورق والانطلاق نحو فضاء الحرية الموعود، لتصطدم بحقيقة أن الخروج من السيطرة الأدبية قد يعني الوقوع تحت سيطرة أقسى وأكثر مرارة: سيطرة الواقع غير المروض. القصة محورية في طرحها، إذ تنطلق شخصيات روائية من عالم الأدب، حيث الخلود النسبي والوضوح الأخلاقي النسبي، ساعية نحو وجود أكثر فاعلية وحرية خارج نطاق المؤلف وقواعد السرد المكتوبة مسبقًا. المفارقة الدرامية تكمن في التحول الجذري الذي يطرأ على هذه الشخصيات؛ فبدلاً من العثور على الحقيقة المطلقة، تجد نفسها مهشمة، تتغير لغتها وطباعها، وتفقد بريقها المثالي، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول قيمة الهوية المكتسبة مقابل الهوية المفروضة بالقهر الواقعي. هذا التحول ليس مجرد تغيير في الحبكة، بل هو انهيار لمنظومة القيم التي كانت تشكل جوهر وجودها الأدبي.
الممثل جهاد خربطلي، الذي جسد شخصية ذات مرجعية فكرية واضحة في الأصل، بعيدة عن التفكك من خلال مزج دورين متناقضين. الانتقال من شخصية متماسكة فكريًا، حتى لو لم تكن مثالية، إلى شخصية تعتمد على الحكم الشعبية الساخرة، يمثل السقوط من مستوى التأمل الفكري إلى مستوى البقاء السطحي والمرح الكاذب. الحلاق، هنا، ليس مجرد شخصية كوميدية، بل هو نموذج للشخص الذي استبدل العمق الفكري ببراعة التكيف الاجتماعي السطحي.بينه وبين الحفار
من جهته اكد الممثل محمد سباغ على البعد الرمزي لهذا العمل مشيرًا إلى أن المسرحية تحمل رسائل واضحة حول أهمية التمسك بالجذور والقيم الأصيلة. عندما تنفصل الشخصيات عن مرجعيتها الثقافية والأخلاقية التي منحتها شرعية وجودها في الأدب، يبدأ التآكل الداخلي. هذا التآكل هو الثمن الذي تدفعه الشخصية مقابل حريتها الظاهرية. إنها حرية بلا إطار، تتحول سريعًا إلى ضياع وجودي. هذا التحول يلامس نقطة حساسة في التجربة الإنسانية المعاصرة، حيث يسعى الكثيرون للتحرر من التقاليد والقواعد الاجتماعية بحثًا عن الذات، لكنهم غالبًا ما يكتشفون أن هذه القيود هي التي كانت توفر لهم الهيكل اللازم لتحمل الوجود.
الفنانة ثناء صقر قدمت منظورًا آخر عبر شخصيتها التي مرت أفكارها بروح مرحة لكنها في جوهرها مثقلة بالأسئلة. هذه الشخصية ربما تمثل الوعي المنفصل، الذي يراقب الانهيار بلغة تبدو خفيفة لكنها تحمل ثقل التساؤل المستمر عن جدوى هذا التحول. إنها تمثل البقاء داخل الوعي بالذات دون القدرة على استعادة الجوهر المفقود.
تبرز أهمية الشخصية المحورية التي يمثلها الجميع “الأستاذ”، الشخصية التي لم تمت، بل اختفت لِيَنهض الجميع بحثًا عنها. الأستاذ يمثل المرجعية الفكرية، النظرية، والدلالة الرمزية التي كانت توحد هؤلاء الأبطال في عالمهم الأدبي. غيابه يعني غياب البوصلة الأخلاقية والمنطقية التي كانت توجه تصرفاتهم.
بحثهم عنه هو اعتراف ضمني بأن الحرية المطلقة دون مرجعية تقود حتمًا إلى الضياع،
لقد نجح العرض المسرحي “بعيداً عن السيطرة” في تقديم دراسة درامية مؤثرة حول التكلفة الباهظة للتحرر غير المخطط له. الهروب من الكتب، رمز النظام والقيم الراسخة، لم يكن بوابة للحرية الحقيقية، بل كان باباً للمتاهة الواقعية التي تشوه الأرواح. الشخصيات التي سعت إلى “وجود أكثر فاعلية” وجدت نفسها بلا فاعلية، مجرد أصداء مشوهة لذواتها المثالية. التحولات من الحلاق إلى التاجر، ومن الشاعر إلى العاجز، كلها تؤكد رسالة المخرج الأساسية: التمسك بالهوية والقيم الأصيلة هو الضمان الوحيد للحرية المستدامة. عندما يتم التخلي عن هذه المرجعيات، يصبح الإنسان عرضة لتسلط الواقع القاسي الذي يعيد صياغته وفق شروطه الخاصة، محولًا المثالية إلى هزيمة وجودية مكتملة الأركان…
شارك في العمل المسرحي كل من الفنانين جهاد خربوطلي .محمد سباغ عبدو حمال .وثناء صقر







































