حبّ جنوني
عندما تلتقي الأرواح
على حافة الوجود: حبٌّ جنوني
منذ أن بدأ الإنسان يُفكّر في نفسه، واجه لغز الحبّ. ما الّذي يدفع قلبًا لينبض لآخر حتّى يعكس ذلك الآخر حياته بأكملها؟ ولماذا، في بعض الحالات، يُصبح الحبّ نارًا لا تُطفأ، تتجاوز الحدود المنطقيّة والواقعيّة وتتحوّل إلى جنون؟
في معناه الشّائع، قد يكون الحبّ حميميّةً أو عاطفةً أو انجذابًا جسديًا. لكن ما إن يلامس جوهر الرّوح، حتّى يتحوّل إلى شغفٍ جامح، تجربة وجوديّة تتجاوز الحدود الاجتماعيّة والنّفسيّة. هنا، لا يعود الإنسان قادرًا على التّمييز بينه وبين الآخر؛ يندمج الاثنان في كيان واحد، مُندمجين في اتّحادٍ مضطربٍ كرقصةٍ كونيّةٍ تتجاوز المنطق واللغة.
إحدى الأفكار المُبهمة هي الرّوح. حاولت فلسفاتٌ مُختلفة تفسير معناها: بالنّسبة لأفلاطون، هي جوهرٌ خالد، مُقيّدٌ بالجسد، يتوق أبديًا للعودة إلى عالمه الرّوحاني. بالنّسبة لأرسطو، إنّها صورة الحياة، المبدأ الّذي يُعرّف الجسد. في الفلسفة الإسلاميّة والمسيحيّة، إنّها تعليمات الله السّريّة، نَفَسٌ إلهيّ. بالنّسبة للصّوفيين، إنّها جزء من كلّ أكبر، شرارة من نور نقي لا تهدأ حتّى تعود إلى مصدرها. ولكنّ وراء التّعريفات، الرّوح تجربة حيّة. في لحظات السّعادة – عندما تتدفّق الدّموع بلا سبب، عندما يرفرف القلب عند رؤية غروب الشّمس، أو عند الشّوق – نعرف ذلك، لشخص لم نره منذ فترة طويلة، تنشأ موجة. الرّوح هي ما يساعدنا على إدراك أنّنا أحياء تمامًا بدلاً من مجرّد أجساد. إنّ الاستجابة للشعور هي تغيير كامل للحياة بدلاً من مجرّد تغيير عقلي. تتغيّر الرّوح في الحبّ تمامًا؛ ترى العالم، وإحساسها بالوقت، وحتّى إحساسها بالموت بشكل مختلف. إنّها لا تتغيّر جزئيًا.
ليس كلّ نوع من الحبّ ناريًّا؛ يمكن أن يبقى ضمن حدود الميل والرّغبة والتّوازن. ومع ذلك، فإنّ الحماس الرّوحي يتجاوز هذه القيود ليكون تجربة وجوديّة كاملة. في محاورة فيدوس لأفلاطون، نتعلّم أنّ العاطفة هي طريق الرّوح نحو الجمال الكامل. يبدأ الإنسان بحبّ الأجساد الجميلة ثمّ يتقدّم إلى حبّ الأرواح، ثمّ
حبّ الجمال نفسه، حتّى يصل إلى المطلق. تُظهر هذه السّلسلة أنّ الحبّ ليس محصورًا في المظاهر بل هو طريق نحو الحقيقة. في الثّقافة العربية، نرى هذا بوضوح في أسطورة قيس وليلى. قيل إنّ قيسًا جن بـ “ليلى” لدرجة أنه عُرف باسم مجنون ليلى. لم يعد يرى سوى صورتها في الكون. كان هذا الجنون حالة روحيّة، وليس مرضًا. دفعه إلى التّغلّب على نفسه بحيث أصبح شعره لغة حبّ عالميّة. يُنظر إلى الحبّ في التّصوّف الإسلامي على أنّه طريق نحو الحبّ هو ديننا؛ به نعبد الله؛ كما يجادل ابن عربي. وغيره من المتصوّفة.
هنا، يتحوّل الحبّ إلى مبدأ أساسي – حركة الحياة نفسها، لا مجرّد علاقة بين شخصين.
يكتشف من يقع في غرام مجنون أنّ اللّغة اليومية لا تكفي للتّعبير عنه. الكلمات العاديّة لا تكفي، فيلجأ الأفراد إلى الرّموز والاستعارات بكثرة في الأدب الرّومانسي: النّار، البحر، الظّلام، الغياب، الاندماج… كلّها أدوات لمحاولة فهم ما لا يُوصف. فكّر في قول الحلاج:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا
نَحنُ روحانِ حَلَّنا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى
تُضرَبُ الأَمثالُ لِلنّاسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ
وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السّائِلُ عَن قِصَّتِنا
لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ
مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا
إنّه يذوب بين الأنا والآخر، فتصبح الذات والآخر كيانًا واحدًا. هذا تصوير دقيق لحالة العاشق الذي لم يعد يميز نفسه عن محبوبه، وليس مبالغة شعرية. لهذا السبب غالبًا ما تشعر الحضارات بالقلق من العشاق المجانين. إنهم يتجاوزون الأخلاق، والقوانين، خارج العقل، خارج التقاليد. إنهم يعرضون الواقع الاجتماعي للخطر. ولكن بينما يستكشفون ما وراء الحدود، ترى الفلسفة هؤلاء العشاق يكشفون جانبًا مدفونًا من الحقيقة.
الحب اعتدال، توازن، ووعي بالحدود، كما يقول العقل. ومع ذلك، يُعلن الحب: النار لا تعرف الاعتدال. العقل يسعى لتقييم وحساب الفائدة. الخسارة هي…؟ ما حدود الممكن؟ مع ذلك، يقاوم الحب هذه الحسابات ويقفز إلى المجهول. هنا يبدأ الجدل: هل يتجاوز الحب المنطق؟ أم أنه يكشف عن قيوده؟ في الواقع، يكشف الحب حدود التجربة الإنسانية لأنه لا يستطيع احتواء العقل وحده. وكما يقول نيتشه، فإن كل حب عظيم فيه جنون طفيف. هذا الجنون، بدلًا من أن يكون نقيضًا للعقل، هو مُكمِّله: فهو يضع العقل في مكانه الصحيح كآداة، لا كسيدٍ مُطلق. تُظهِر تجربة الحب أن الإنسان ليس مُفكِّرًا فحسب. يوجد في داخله فضاءٌ أوسع، تحكمه قوانين الشعر والرمز والأحلام بدلًا من قوانين المنطق: فضاء الروح.
لا تعود الروح كما كانت عندما تُدرك جنون الحب. إنها تتطور إلى كائنٍ آخر. تنظر إلى الكوكب بعيونٍ جديدة؛ كل شيءٍ ينبض بالحياة. ترى الزمن بعمقٍ أكبر: ثانيةٌ واحدةٌ تتحول إلى أبدية. تتصالح مع الموت: الموت أمام نشوة الحب ليس سوى غيابٍ مؤقت.
لذا، يكتسب العاشق من الحب معرفةً أكبر مما يكتسبه من الكتب والأفكار. يكتشف أن المعنى الحقيقي للحياة يكمن في الانحلال والانفتاح لا في السيطرة أو التملك.
وتؤكد التجارب الرائدة في الأدب العالمي هذا: فقد وجد دانتي في بياتريس صورةً للجمال الإلهي، فأصبحت في “الكوميديا الإلهية” بوابةً إلى الجنة. وفي “آلام الشاب فيرتر”، صوّر غوته العاشق كإنسانٍ يتصارع بين المنطق والجنون حتى الموت. كان الحب بوابةً إلى المطلق لجميع الرومانسيين. وهكذا يتحول الحب إلى مدرسة فلسفية لأنه يكشف حدود المنطق ويمنح الإنسان فهمًا أعمق لنفسه وللحياة.
قد يرى العقل الحب المجنون تهديدًا، أو مرضًا، أو انحرافًا عن نظام الأمور. ولكن من منظور أعمق، فهو معرفةٌ متنكّرةٌ في زيّ الجنون. يُعلّمنا الحب أنه ما لم تكتشف الروح انعكاسها في روحٍ أخرى، فإنها لا تكون كاملة. إن الحياة رحلة نحو الوحدة، نحو المطلق، نحو الاندماج، وليست مجرد بحث عن البقاء.
عندما قالوا إنّ الحبّ درب، كان الصّوفيون محقّين. درب لا يرشد إلى الآخر فحسب، بل إلى الله أيضًا، إلى الحقيقة، إلى أعمق ،للذات. لذا، عندما نتحدّث عن الجنون في الحبّ، فإننا نشير إلى أعلى مستويات الصّحّة الرّوحيّة لا إلى المرض. إنّه عودة إلى جوهر الوجود، الّذي هو في جوهره علاقة حبّ بين الخالق والكون، بين الأرواح الّتي تلتقي وتحترق معًا في نار، بين السّرّ وظلاله.
بقلم الشاعرة د.سحرحليم أنيس
سفيرة السلام الدولي
القاهرة 27/12/2025






































