سليم صبري: بين الفن والحياة، قصة مبدع لا ينتهي …
تحاوره : سلمى صوفاناتي
في عالمٍ يسكنه الحلم، حيث تتلاقى الأضواء مع الظلال، يظهر سليم صبري كأحد تلك النجوم النادرة التي تضيء سماء الفن العربي بنورها الخالد. سليم الذي بدأ مشواره في أواخر الخمسينيات، وكأن القدر قد اختار له أن يسير في درب لا يشبه غيره. كان هناك، في زوايا المسرح القومي، حيث تنبعث الروح الإنسانية من بين الكلمات والحركات، هناك حيث تُولد الحياة في كل دور يؤديه، تاركًا أثرًا لا يمحى في قلوب من يتابعونه.
المسرح كان له الرفيق الأول، وعندما أطل على التلفزيون، كانت أضواء الشاشة تُضاء بنور آخر، ناتج عن سنوات من التراكم الفني والحرفية العالية. فهو لم يكن مجرد ممثل، بل كان خالقًا لحكايات، ومُخرجًا لأحاسيس يلامس بها أرواح الجمهور، ويحفز فيهم القدرة على التأمل والتفكير.
رحلة سليم صبري لم تكن مجرد مسار في عالم الفن، بل كانت حكاية إنسان ارتبط بالفن كروح، وعاش على خشبته وفي كواليسه وبين شاشاته. ومن كل خطوة كان يخطوها، كانت تفتح له أبوابًا جديدة ليُصبح رائدًا في الإنتاج التلفزيوني، ومؤسسًا لخطوط فنية جديدة ارتكزت على الواقعية والصوت الفعلي للأجيال الجديدة.
لكن خلف تلك الإبداعات العظيمة، كان هناك شخص عاش مع الفن، وسكن في قلبه، فلم يكن يومًا مجرد ممثل، بل كان شاعرًا ومفكرًا يعكس روح المجتمع وهمومه. اليوم، في هذا الحوار، نغوص معًا في أعماق تلك الرحلة التي عاشها هذا الفنان الكبير، حيث نجد الصدق في كل حرف، والوفاء للفن في كل إجابة.
س 1 :
بدأت مسيرتك الفنية في أواخر الخمسينيات، كيف كانت انطلاقتك الأولى في عالم الفن، وما الذي دفعك إلى الالتحاق بكلية الحقوق بدلاً من كلية الآداب؟
– في تلك السنوات، كانت أحلامي تقترب من المستحيل، حيث نشأت بين عالمين: عالم الأدب والفن الذي كان يملأ روحي، وعالم الدراسة الذي كان يفرض عليّ وجهة أخرى. درست في المدرسة الأمريكية التي جعلتني أغمس في اللغة الإنجليزية قبل أن أتعرف إلى العربية بشكل أعمق، ومن هنا كانت رغبتي في الالتحاق بـ كلية الآداب. لكن الحياة، كما هو شأنها دائمًا، اختارت لي مسارًا مختلفًا؛ فقد كانت كلية الآداب مكتملة، فقررت أن أتابع دراستي في كلية الحقوق. ورغم أنني كنت أتحرك في هذا المسار التقليدي، كانت كلية الآداب هي مكان سكني الروحي، حيث كنت دائمًا ألجأ إلى ممراتها بين الحين والآخر.
وفي أحد الأيام، كان لمدير الكلية رأي آخر، فقد قرر تقديم عرض مسرحي باللغة الإنجليزية ضمن الأنشطة الطلابية، واختارني للقيام بدور رئيسي في هذا العرض، رغم أنني لم أكن طالبًا في الكلية. كانت تلك اللحظة فارقة في حياتي. حينما أدركت أن المسرح كان هو المكان الذي يعكس جوهري، كانت اللغة المسرحية تكتب لي تاريخًا جديدًا.
س 2 :
كيف كان وقع تلك التجربة على روحك، وكيف أثرت في قراراتك الفنية المستقبلية؟
– كانت تلك التجربة بمثابة تتويج لحلم كان غائبًا، ولكن عميقًا في أعماق قلبي. في تلك المسرحية، التي كانت تُعرض على خشبة مسرح الجامعة، كانت الأحاسيس تتسارع في داخلي، وكأنني أُعيد اكتشاف نفسي. كان العرض يمتد لأسابيع، وكان يمثل لي جسرًا بين الواقع والحلم. وفي أحد الأيام، بعد العرض، اقترب مني شخصٌ وسلمني بطاقة كتب عليها “نجاة قصاب حسن”، مسؤول في وزارة الثقافة والإرشاد، وكان لهذا اللقاء وقع خاص. سألني إن كنت أحب التمثيل وأرغب في الاستمرار فيه، فأجبت بكل يقين: “نعم، أتمنى ذلك”. وما لبثت أن تلقيت دعوة للانضمام إلى المسرح القومي، وأصبحت جزءًا من هذا الصرح الفني العريق.
س 3 :
إذن، كانت تلك نقطة التحول في مسيرتك. ولكن بعد سنوات من العمل في المسرح، انتقلت إلى عالم التلفزيون. ماذا أضافت لك هذه النقلة من أبعاد فنية؟
– الانتقال إلى التلفزيون لم يكن مجرد خطوة تقليدية، بل كان رحلة جديدة إلى عالم واسع. فقد كان عملي في المسرح القومي قد أكسبني الكثير من الخبرة في الأداء، لكن التلفزيون فتح أمامي آفاقًا أكبر للعمل في الإخراج والتأليف. لم أكتفِ بكوني ممثلًا، بل كان لدي حلمٌ في تحسين وتطوير الإنتاج التلفزيوني، فاقترحت إنشاء “مديرية الإنتاج التلفزيوني” كمؤسسة مستقلة تُعنى بتطوير هذا القطاع، وكان هذا حلمًا تحقق بقرار من مجلس الوزراء، لتكون لي الفرصة في قيادة هذه المديرية. هذه التجربة قد عززت رؤيتي للفن، وجعلتني أكثر تأثيرًا في المشهد الإعلامي.
س 4 :
بين كل تلك النجاحات التي حققتها، هل ترى أن مسيرتك الفنية كانت كافية لتحقيق طموحاتك؟ وإن عاد بك الزمن، هل كان هناك حلمٌ آخر تسعى لتحقيقه؟
– رغم النجاحات التي أعتز بها، كان دائمًا هناك حلمٌ يراودني: أن يكون إنتاجنا الفني تلفزيونيًا على مستوى عالمي، وأن تُعرض أعمالنا بلغات متعددة في مختلف أنحاء الأرض. كان هذا حلمي الأكبر. أما بالنسبة للأعمال التي أندم على مشاركتي فيها، فلا أرى أن هناك عملًا أندم عليه. ولكنني أؤمن بأن الفن لا حدود له، وأن النجاح ليس نهاية الطريق بل هو بداية لاستكشاف أبعاد جديدة.
س 5:
هل كان لزواجك من الوسط الفني دور في تعزيز مسيرتك، خصوصًا مع الفنانة ثناء دبسي؟
– ثناء كانت جزءًا من حياتي قبل أن تكون جزءًا من عملي الفني. كان لقاؤنا في المسرح القومي لحظةً حاسمة، حيث تجمدت في مكاني حين رأيتها للمرة الأولى. كانت رفيقة العمر، التي ساندتني في كل الأوقات، سواء في حياتي الشخصية أو في مسيرتي الفنية. كانت دعمي في كل خطوة، وتلك العلاقة كانت أكثر من مجرد شراكة فنية، بل كانت توأم الروح.
س:
مسلسلات البيئة الشامية أصبحت جزءًا من الموروث الثقافي العربي اليوم، فما رأيك في الأعمال التي تُعرض تحت هذا المسمى؟
-أعتقد أن معظم هذه الأعمال لا تمثل البيئة الشامية الحقيقية. إنها محاولات لتقليد الأعمال القديمة، ولكنها تفتقر إلى الأصالة والصدق. في الماضي، كانت النصوص تحمل رسائل حقيقية عن معاناة الناس وتفاصيل حياتهم اليومية. أما اليوم، فغالبًا ما تقتصر الأعمال على مشاهد مصطنعة تفتقر إلى العمق. نحن بحاجة إلى أعمال تتناول واقع الناس بصدق، بعيدًا عن التصنع.
س 6:
وكانت لك بصمة مميزة في مسلسل “الخوالي”. برأيك، ما الذي جعل هذا العمل يحقق كل هذا النجاح؟
-الخوالي كان يتعامل مع الواقع بكل صدق وموضوعية، **كشَفَ **حال الناس بكل تجرّد وبدون تزييف. كان يروي قصصًا حقيقية عن حياة الناس في زمن معين، وكان يبتعد عن المبالغات التي تفسد الكثير من الأعمال الحالية. لهذا أحبّه الجمهور، لأنه كان يشبههم، ويعكس حياتهم بأدق تفاصيلها.
س7:
هل ترى أن الدراما العربية اليوم تسير في الاتجاه الصحيح؟
-للأسف، لا. الدراما اليوم تعيش في حالة من التراجع المستمر. النصوص أصبحت فقيرة في الرسالة، ولا تحمل قضايا هامة تمس المجتمع. نحن نسير إلى الوراء بسبب غياب الإهتمام الجاد بالفن وتطويره. ما نحتاجه هو العودة إلى الجذور، إلى النصوص التي تتناول قضايا الناس وتُلهمهم.
س 8:
كلمة أخيرة توجهها إلى جمهورك في مصر والعالم العربي؟
-مصر كانت ولا تزال أم الحضارة ورائدة الفن. أدعو أن تبقى على هذا النهج، وأن تواصل قيادة الثقافة والفن في العالم العربي. أما لجمهوري في مصر وفي كل مكان، فإني ممتن لهم ولكل من ساهم في نجاحي. أتمنى أن تستمر أعمالنا في إلهام الأجيال القادمة، وأن تظل الرسالة الفنية هي التي تجمعنا جميعًا.







































