سماحة المفتي علي جمعة .. حجة الإسلام الأصوليّ الصوفيّ
أن تجمع بين طرفين متباعدين، فتتقن إمساكهما بإحكام، وتصير في مجال كل طرفٍ منهما نجمًا ساطعًا وحجةً ناطقةً وإمامًا متبعًا، فهذا نوع عبقرية وقدرة لا يهبها الله لكثيرٍ من عبادة. وعلى عزة هذه الهبة وندرة وجودها في الناس، فلقد منحها الله لسماحة المفتي فضيلة الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية.
ولا أدري أهو أصوليّ ثم صوفيّ أم هو صوفيّ ثم أصوليّ، ولكن المحقق لديّ أنه بين هذا وذاك كاتبٌ وفقيهٌ وأكاديميٌّ ومثقفٌ ونشطٌ في مجالاتٍ عدة. ولا عجب أن يجتمع هذا كله في شخصٍ واحد وفي عقلٍ واحد، طالما استطاع من قبل ذلك أن يجمع بين العلم الوضعي المنطقي في الأصول من طرفٍ وبين العلم الإشراقي الروحاني في التصوف من طرفٍ آخر، رغم التباعد الذي بين الطرفين، ثم لا عجب أن تكون شخصية كتلك الشخصية مثار جدل بين الحين والآخر فيما يصدر عنها من أحاديث وفتاوى وآراء، إذ إنها تصدر عن سماحته معبرة عن عقليته الجامعة لأطراف واسعة شاسعة من العلوم المختلفة، يصعب على الناظر أن يرى أقصاها إلى أقصاها، فضلاً عن أن يصول ويجول بين شطآنها المترامية.
إن التخصص العلمي الدقيق لسماحة المفتي هو علم أصول الفقه، وقد حصل على درجة الماجستير والدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف في هذا التخصص من جامعة الأزهر، ودرّس هذا العلم لسنواتٍ طويلة، وقدم فيه كتاباتٍ وأبحاثًا عدة حتى نال درجة الأستاذية، وأشرف على العديد من الرسائل العلمية تجاوزت المائة. فلا شك أن هذا العلم قد اختلط بشحمه ولحمه ودمه، وكان له أثر عظيم في تكوينه المعرفي وتفكيره المنطقي.
وعلم أصول الفقه علمٌ يقوم على أساسين، الأول المنطق والثاني هو اللغة، وكلاهما من العلوم المعيارية القياسية. فالأصول وإن كانت من علوم الشرع، فإنها أبعد ما تكون عن لغة الوعظ والخطابة، وأقرب ما تكون إلى لغة الاستقراء العلمي المجرد والمنطق العقلي المُحْكَم. وعقلية مثل عقلية سماحة المفتي اشتركت الأصول في تكوينها العلمي والمعرفي، هي عقلية تأصيلية تأسيسية، تميل إلى وضع القواعد العامة ورسم الخطوط العريضة، وتتيح بعد ذلك لمن يشاء أن يستثمر تلك القاعدة وأن يسير على هديً من الخط المرسوم في كل حالة مخصوصة.
أما علم الطريق أو التصوف، فهو علمٌ روحاني وذوق وجداني وطريق إشراقي، لا يُوصف بالعبارات، وإنما يُعرف بالأحوال والمقامات، فالعبارة تضيق بالإفصاح عنه، أو كما يقول أهل الطريق: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. لذا ينكره أهل الرسوم، لأنها معرفة لا تُدرك إلا بالذوق، ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف. وسماحة المفتي شيخ واحدة من هذه الطرق، الصديقية الشاذلية، تهدف إلى التربية الدينية بالوعظ والإرشاد على هدى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وإن رأيًا يصدر عن شخصية وعقلية تهذبت بأخلاق أهل الطريق فهي ولا بد آراءٌ رحبة وفتاوى سمحة تسع الناس وتراعى أحوالهم ولا تَضيق بهم ولا تُضيق عليهم.
وهاهنا ندرك كيف أن الإمساك بطرفين كهذين، أحدهما منطقي عقلي، غاية ما يكون المنطق والعقل في تجردهما. والثاني روحاني وجداني، غاية ما تكون الروح والوجد فى تحلقهما، تعرف أن الإمساك بهما، فضلاً عن إتقانهما، لا يكون إلا عن موهبة ربانية لاقت استعدادًا فطريًا.
ثم إنك تعرف أيضًا لماذا تثير آراء سماحته وفتاويه بعض الجدل، لا لشيء إلا لأنها ناتجة عن شخصية وعقلية جمعت، فيما يبدو في الظاهر، بين المتناقضات، ولكن الحقيقة أن هذا التناقض الظاهر هو عين الحق، فما ذاك إلا تجليًا لأسمائه سبحانه وتعالى في كونه، فهو سبحانه الظاهر والباطن، أو كما قال الأمام الأكبر والكبريت الأحمر.
ثم إنك الآن تعرف لماذا ترى سماحته معتدًا بنفسه شديد الاعتداد بها، لا يلتفت إلى ما يُثار حوله من جدل الغوغاء، فليس من أحد رسخ في علم الأصول كما رسخ، وألّف وكتب فيه ما كتب، إلا وشعر بنشوةٍ وتفوقٍ وامتيازٍ على الأقران، فالأصول بين العلوم الشرعية تبدو كجبلٍ شامخٍ يتهيب الناظر إليه من مجرد النظر، فما بالك بمن صعد على قمة من قممه وتربع. ثم إنه من أهل الطريق، وعدهم التسامح والسماحة، وسمتهم الدعة وعدم الاكتراث والتغافل، والاعتناء بتربية النفس بدلاً من الانخراط في جدل لا ضرورة فيه ولا جدوى منه إلا كثرة اللغط.
وفى الحقيقة فإن مقالاً واحدًا عن سماحة المفتي لا يكفي، وعدة مقالاتٍ لا تكفي أيضًا، فمناقبه وأعماله وإنتاجه العلمي ونشاطه الاجتماعي تستوعبه كتب وكتابات، ولا يمكن أن يُختزل في عدد من المقالات إلا بإشارات سريعة كتلك الإشارت.
وأهم إشارة قصدتُ من أجلها بهذا المقال، أن سماحة المفتي فضيلة الدكتور على جمعة مفتي الديار المصرية يستحق أن يُتوج بلقب (حجة الإسلام) ليكون درّة ألقابه وذروة سنامها. وليس مثلي من يُلقب، فهذا من شأن الجماعة العلمية، ولكنني لمحبتي لفضيلته ومعرفتي بقدره وحقه على الأمة الإسلامية فإنني أحب له هذا اللقب، لأنني أرى فيه وفي سيرته صورة ناطقة لجحة الإسلام الأول الإمام الغزالي. فالإمام الغزالي نشأ في مدارس علمية نظامية لا تعرف الفوضى ولا الهرج، وكذلك نشأ سماحة المفتي في مؤسسة علمية عريقة وهي الأزهر الشريف، والإمام الغزالى أمسك بتلابيب الأصول وألّف فيها عمدة المؤلفات، وكذلك سماحة المفتي، والإمام الغزالي هو الذي سلك منهج الشك حتى وصل إلى اليقين، وكان يقينه أن أهل الطريق هم أهل الكشف والعرفان والحقيقة، وكذلك سماحته سلك الطريق حتى صار من أهله وشيوخه وأئمته، والإمام الغزالي واجه أهل الفرق من مبتدعة وباطنية وفضحهم وكشف أسرارهم، وكذلك سماحته فضح النابتة كما يسميهم وكشف أسرار المبتدعة والجهلة والخوارج، وكأن سماحته يسير على درب الإمام الغزالي خطوة خطوة، فاستحق أن يكون للإسلام حجة، كما كان الإمام الغزالي من قبله حجة.
دكتور عماد حمدى البحيرى






































