بقلم أمين الجرادي
أسعدني صديقي، الشّاعر السوداني، يعقوب عبدالعزيز، في الأسبوع الماضي، بإهدائي مجموعته الشّعريّة الأخيرة الصّادرة عن دار بدوي للنشر والتوزيع – ألمانيا، 2025، والّتي حملت عنوان “يعرفونني في المدينة”. تقع المجموعة في حوالي 180 صفحة من القطع المتوسط، وتضمّ حوالي 32 نصّاً متوزعة بين القصير والمتوسط والطّويل. من عناوين نصوص المجموعة: جراح الضّباب (ص41)، عام جديد وسأتورّط فيك أيضاً (ص51)، العصفور الّذي يقلّم قلبه لم يك مخطئاً (ص35)، حزن ناضج (ص75)، نساء يحتمين من الوجع (ص89). وفي الأهداء، حملت الكلمات عذوبة بتوقيع الشاعر: “إلى الأصدقاء أولاً وأخيراً، إلى الذين فتحوا منزلاً، وأعدّوا متّكًَاً، وأضافوا إلى الحكاية…” (ص3).
يعقوب عبدالعزيز من الأصوات السودانية الشّابة الّتي تكتب قصيدة النّثر، بلغة حسيّة جميلة. مع ذلك لا تخلو هذه اللّغة من التّأثّر بروح المدينة وتجارب الاغتراب والحرب والنّزوح. العنوان “يعرفونني في المدينة” يعكس السّياق الزّمني والجغرافي للسّودان وما يمرّ به من ظروف حالية، ما يمنح المجموعة بعداً سياسيّاً واجتماعياً واضحاً يستدعي التّوقّف عند قضايا مهمًة مثل الحرب، والهجرة، والنّزوح، وخيبة الأمل في الوطن. كما أنّ التّوقيت الزّمني لصدور المجموعة (2025) يعكس انشغال الشّاعر وجيله بأسئلة الهويّة، والمكان، والحنين وسط عالم من الفوضى والصّراعات.
يعبّر النّصّ الّذي حمل اسم المجموعة “يعرفونني في المدينة” عن الاغتراب والوحدة المصحوبة بالخوف، الّتي يعيشها الشّاعر في قلب هذه المدينة.
المتحدّث في النّصّ هو الشّاعر نفسه أو ذات قريبة منه، يسير في مدينة كبيرة لا تشبهه، يعرفه النّاس من برده الدّاخلي وارتجافه وتكرار عاداته اليوميّة. الزًمان معاصر، والمكان مدينة رماديّة صاخبة تمثّل الغربة والاغتراب. النًص تغلب عليه الصّور الحسّية القويّة الّتي تجمع بين البرد والنّار، مثل: “بيديّ المتجمّدتين والجائعتين أبدًا للتّشابك”، و”أدخّن السّجائر حتّى نهايتها وأسحقها بغضب” (ص171). هذه الصّور ترمز إلى القلق والحنين والعزلة. وتتكرر عبارة “يعرفونّني في المدينة” لتمنح النّصّ نغمة موسيقيّة حزينة، تؤكّد هويّة الشّاعر الممزّقة بين الحضور والغياب.
المزاج العام للنّصّ حزين ومتوتّر، تمتزج فيه ذات الشّاعر القلقة مع جوّ باهت أقرب إلى السّخرية المريرة. هذا الجوّ، يسوده الحنين والاغتراب والبحث عن الذّات في مدينة لا تمنح الأمان. فالنّاس يعرفونه من ملامحه الخارجيّة، لكنّهم يجهلون ما بداخله من صقيع ووجع وحنين.
كذلك، يتّكئ النّصّ، على نفسٍ حرّ، ومتقطّع، يعكس الارتباك النّفسي للشّاعر، في حين أن التّكرار والتّوازن بين الجمل القصيرة والطًّويلة يخلق الموسيقى الدّاخليّة للنّص، والنّتيجة تناغم خفيّ بين الألم والهدوء.
من القراءة الأولى، يبدو النّصّ أشبه بمرثيّة صامتة للإنسان المعاصر الّذي فقد الدّفء الإنسانيّ في ظروف إجباريّة من الحرب والنّزوح. هذا الإنسان يعرفه النّاس من مظاهر الانكسار، لكنّه يعرف نفسه من الحنين الّذي يختتم به القصيدة؛ الحنين الّذي صار اسمه وهويّته الوحيدة.
يسجّل النّصّ اعترافاً شعريّاً صادقاً يعبّر عن عزلة الشّاعر في عالم مزدحم، وعن جرح داخليّ لا يراه الآخرون، لكن يمكن معرفته من نظرات الشًاعر نفسه، وصمته وحنينه الّذي لا يهدأ.






































