القمةُ المصريةُ – الأوروبيةُ: شراكةٌ تعيدُ رسمَ جسورِ المتوسطِ .
بقلم : أشرف كمال
في بروكسلَ، المدينةِ التي تتقاطعُ فيها أنفاسُ التاريخِ معَ نبضِ القرارِ الأوروبيِّ، انعقدتِ القمةُ الأولى بينَ جمهوريةِ مصرَ العربيةِ والاتحادِ الأوروبيِّ في الثانيِ والعشرينَ من أكتوبرَ عامَ ٢٠٢٥م.
قمةٌ ليستْ عابرةً في سياقِ الدبلوماسيةِ، بلْ صفحةً جديدةً في كتابِ التحالفاتِ الدوليةِ، أعادتْ رسمَ ملامحِ العلاقةِ بينَ ضفّتَي المتوسطِ، بينَ الجنوبِ الذي يتطلعُ للنهوضِ والشمالِ الذي يبحثُ عنَ الاستقرارِ في عالمٍ يضجُّ بالأزماتِ والهجراتِ والتحولاتِ.
– مصرُ… من ضفةِ التاريخِ إلى مائدةِ القرارِ :
لمْ تذهبْ القاهرةُ إلى بروكسلَ بأيدٍ فارغةٍ، بلْ بحقيبةٍ ملأى بالثقلِ الجغرافيِّ والسياسيِّ والإنسانيِّ.
فمصرُ، منذُ فجرِ التاريخِ، كانتْ معبرًا بينَ القاراتِ ومركزًا لتلاقحِ الحضاراتِ، وهي اليومَ تقفُ على العتبةِ نفسِها، لكنْ بأدواتٍ جديدةٍ ورؤيةٍ عصريةٍ.
القمةُ جاءتْ لتترجمَ هذا الدورَ من خلالِ اتفاقِ الشراكةِ الاستراتيجيةِ الشاملةِ، الذي وُقّعَ في مارسَ ٢٠٢٤م، وجاءتْ اجتماعاتُ أكتوبرَ لتمنحَه روحَ التنفيذِ.
– الاقتصادُ… العصبُ الأولُ للشراكةِ :
أولى نتائجِ القمةِ كانتْ اقتصاديةَ الطابعِ، لكنها سياسيةَ المعنى.
فقدْ أعلنَ الاتحادُ الأوروبيُّ عنْ حزمةٍ تمويليةٍ بلغتْ ٤٫٧٥ مليارَ يورو، توزعتْ بينَ دعمٍ مباشرٍ للموازنةِ وقروضٍ ميسّرةٍ لمشروعاتِ البنيةِ والإصلاحِ.
لمْ يكنِ الأمرُ مجردَ منحةٍ ماليةٍ، بلْ تعبيرًا عنْ ثقةٍ أوروبيةٍ في قدرةِ مصرَ على النهوضِ من عنقِ الزجاجةِ الاقتصاديةِ وسطَ مناخٍ دوليٍّ متقلبٍ.
على الجانبِ الآخرِ، أبدتْ مصرُ استعدادَها للمضيِّ في إصلاحاتٍ هيكليةٍ تُنقذُ السوقَ منَ الركودِ وتعيدُ للمستثمرينَ ثقتَهم.
القاهرةُ تعلمُ أنَّ الشراكةَ ليستْ التزامًا بالمالِ وحدَه، بلْ التزامٌ بالمعاييرِ والشفافيةِ والإنتاجِ الحقيقيِّ.
– العلمُ… حينَ تمتدُّ يدُ المتوسطِ إلى المختبرِ :
واحدةٌ من أجملِ ثمارِ القمةِ كانتْ إعلانَ انضمامِ مصرَ رسميًا إلى برنامجِ Horizon Europe، وهو أكبرُ برامجِ البحثِ والابتكارِ في القارةِ العجوزِ.
بهذا القرارِ، فُتحتِ الأبوابُ أمامَ الجامعاتِ والعقولِ المصريةِ لتشاركَ نظيراتَها الأوروبيةَ في رسمِ مستقبلِ العلمِ والمعرفةِ.
إنها نقلةٌ منَ التعاونِ الاقتصاديِّ إلى التحالفِ الحضاريِّ، حيثُ يصبحُ العقلُ المصريُّ جزءًا من منظومةِ الإبداعِ العالميِّ، لا تابعًا لها.
– الهجرةُ… قضيةُ إنسانٍ قبلَ أنْ تكونَ حدودًا :
في ظلِّ اضطرابِ المشهدِ الإقليميِّ، تصدرتْ قضيةُ الهجرةِ جدولَ المباحثاتِ.
مصرُ، بحكمِ موقعِها، باتتْ بوابةً جنوبيةً لأوروبا، ودرعًا واقيةً أمامَ موجاتِ النزوحِ التي تتدفقُ من قلبِ إفريقيا.
غيرَ أنَّ القاهرةَ لمْ تطرحْ نفسَها كحارسٍ للحدودِ فقط، بلْ كشريكٍ يسعى لمعالجةِ الجذورِ لا الأعراضِ: التنميةِ، والتعليمِ، والاستقرارِ الاجتماعيِّ.
الاتحادُ الأوروبيُّ بدورِه رأى في مصرَ ركيزةً يمكنُ البناءُ عليها في هندسةٍ جديدةٍ لعلاقاتِ الجنوبِ والشمالِ، تقومُ على التنميةِ لا التبعيةِ، وعلى الشراكةِ لا الحراسةِ.
– السياسةُ والأمنُ… الشرقُ الأوسطُ على طاولةِ المتوسطِ :
لمْ تخلُ القمةُ منَ الهمِّ الإقليميِّ.
فملفاتُ غزةَ وليبيا والسودانِ وأمنُ البحرِ الأحمرِ كانتْ حاضرةً بعمقٍ في النقاشاتِ المغلقةِ.
أوروبا، التي عانتْ من اضطرابِ الإقليمِ، باتتْ تنظرُ إلى مصرَ كصوتٍ عاقلٍ في بحرٍ منَ الصخبِ، وكمحورٍ للاتزانِ السياسيِّ في الشرقِ الأوسطِ.
منْ جانبِها، أكدتْ القاهرةُ أنَّ أمنَ المتوسطِ لا يتجزأُ، وأنَّ الحلولَ لا تُصاغُ في العواصمِ البعيدةِ وحدَها، بلْ في التعاونِ الصادقِ بينَ الضفتينِ.
– القمةُ… ما بينَ الأملِ والنقدِ :
رغمَ إشادةِ المراقبينَ بعمقِ الاتفاقياتِ ومتانةِ التفاهماتِ، إلا أنَّ أصواتًا حقوقيةً أوروبيةً طالبتْ بأنْ تتضمنَ الشراكةُ التزاماتٍ أكثرَ صرامةً في ملفِّ الحرياتِ.
وهنا، تظلُّ القمةُ اختبارًا مزدوجًا:
اختبارًا لصدقِ الأوروبيينَ في احترامِ خصوصيةِ الشركاءِ الجنوبيينَ، واختبارًا لمصرَ في قدرتِها على الموازنةِ بينَ السيادةِ الوطنيةِ والانفتاحِ على الإصلاحِ.
– خاتمةٌ… المتوسطُ يعودُ إلى نفسِه :
هكذا خرجتِ القمةُ المصريةُ – الأوروبيةُ عنْ قالبِها البروتوكوليِّ لتصبحَ علامةً سياسيةً على طريقٍ جديدٍ.
فمنْ بروكسلَ إلى القاهرةِ، ومنْ ضفافِ النيلِ إلى شواطئِ المتوسطِ، تتشكلُ رؤيةٌ جديدةٌ للعلاقاتِ الدوليةِ:
رؤيةٌ لا تقومُ على العونِ بلْ على التكاملِ، لا على الأوامرِ بلْ على الحوارِ، ولا على الخوفِ منَ الهجرةِ بلْ على الاستثمارِ في الإنسانِ.
إنها قمةٌ تُعيدُ للبحرِ الأبيضِ هيبتَه القديمةَ، حيثُ كانَ جسرًا للتلاقي لا خندقًا للفصلِ، وتضعُ مصرَ في موقعِها الطبيعيِّ:
قلبَ الشرقِ، وبوابةَ الغربِ، ومفتاحَ المتوسطِ.






































