رحلة الكاهن الصّغير
بقلم عدنان الطائي
حين وطأتُ قدمي الماء، شعرتُ ببرودةٍ تسري في عظامي، وكأن الأرواح الّتي كنت أراها في الظّل قد انتقلت إلى داخلي. لا صدى لأنشودة النّجوم، ولا دفء من لهب الموقد، فقط صمتٌ كثيف يعجّ بالاحتمالات. سحبتُ سهمًا من جعبتي وغرسته في الأرض، وقلتُ: “إن عادت الآلهة، فليكن هذا دليلًا إليّ.”مددتُ يدي إلى الماء، فتجمّدت. ارتجف النّهر فجأة، وكأنّ شيئًا نهض من قاعه. بدت لي هيئةٌ من ضوءٍ وظلال، لا وجه لها، لكنّها نادتني:
“عُد يا ابن الكاهن، لم يحن وقتك بعد…”
ارتجف قلبي، ثمّ انفتحت عيناي بعد حين على ضفّتي نهر الفرات، تتخلّل مياهه زقورة بابلية قد تربّعت على زرقتها، يحرسها ملكٌ عادل، حمورابي، وهو يحمل مسلّته بقوانينها، ويسوط ظهر فرسه النّافر. قوانينُ شُرّعت على نحوٍ متقن: محرّم عبور النّهر العظيم، محرّم النّظر إلى أرض الآلهة، محرّم الدّخول إلى مساكن الأرواح، رغم أنه مسكونٌ بالأرواح والشّياطين. أبي كاهن، رافقته إلى أماكن الأموات المجاورة، وسمعت صوته يقول: ”
لا تنسَ أنّك ابني، لا تنسَ الكهانة، ولا تخن الدّم.”
نظرتُ إلى السّماء، ثمّ إلى النّهر… وكان القرار أن توقفتُ عند الباب حين ولج أبي بيتًا تسكنه الأرواح. وهنّ قلبي وتضاءل، ولا يليق بابن كاهن أن يُظهر خوفه. ناولني قطعةَ معدن، وحدّق فيّ بعينين تخلط بين الخوف والرّجاء. أمسكتُ بها، ولم أمت. تهلّلت أساريره حين علم أنني حقًا ابنه، وأنني سأكون يومًا كاهنًا مثله. حدث ذلك عندما كنت صغيرًا، دون إخوتي الصّيادين الماهرين، الّذين يسخرون من تعاويذي ويرمونني بأصداف الأسماك. ناولني أبي قطعة لحم شهيّة، وأخلدني إلى ركنٍ دافئ قرب الموقد، وهو يرمقني مليًا بنظرةٍ غامضة. غمرته بهجة عارمة لكوني مؤهلًا للكهانة، لكنّه ظلّ يعاقبني حين أطرب زهوًا أو أجهش بالبكاء دونما سبب. كان عقابه أشد قسوة مما هو لإخوتي، وانقضت الأيام الخوالي، حتى سُمح لي بارتياد أماكن الأموات والبحث عن المعدن. تعلمتُ المسالك التي تنتهي بتلك المساكن، ولم أعد أشعر بالخوف إن رأيت العظام، وهي خفيفةٌ وعتيقة، تتفتت إلى غبارٍ عند اللّمس، الذي هو في حد ذاته خطيئة. تعلمتُ الأناشيد والتعاويذ، وإيقاف النّزيف من الجرح، وأسرارًا عديدة أخرى. قلتُ لأبي: آن الأوان لأقوم برحلتي، هب لي الإذن بذلك. نظر طويلًا وهو يُمسّد لحيته، وقال: “نعم، آن الأوان.” نظرتُ إلى دخان النّار وأخبرته بما رأيت وراء النّهر العظيم — أرض الأموات الممتدّة الًتي تطوف فيها الآلهة. كانت عيناه صارمتين حين أخبرته بذلك، لم يعد أبي، وإنما كان الكاهن يقول: “هذا حلم متين، ومن المحتمل أن يُهلكك.”
لكنّ الحلم صار في قلبي أثقل من أن يُنسى. والدّخان يطوف متموجًا، وأنا أشعر بالدّوار. تلاشت كلماتي: “إنّه حلمي… لست بخائف.” كانوا ينشدون أغنية النّجوم في الهيكل الخارجي، كأنّها أزيز نحلٍ داخل رأسي. ناولني أبي قوسًا وثلاثة أسهم. نظرتُ إلى المدى، ثمّ إلى المجهول الّذي يلوح لي من وراء الضّباب. رفعتُ قدمي، عبرتُ السّهم المغروس، وسمعتُ انكسار شيء خلفي. لم ألتفت. سمعت صوته من بعيد: “أخذها… محرّم السّفر إلى الشّرق، محرّم عبور النّهر، محرّم الذّهاب إلى موضع الآلهة. ربّما ستكون كاهنًا عظيمًا، لكنّك ستبقى لي ابنًا، حتّى لو أهلكتك هذه الأحلام… والآن، انطلق في رحلتك.”






































