عواطف مكبوتة …
قصّة قصيرة.. رحلةٌ رمزيّة داخل متاهة الذّات
بقلم: عدنان الطائي
مقدّمة نقديّة
في هذه القصّة القصيرة، اسمحوا لي ان أغوص في أعمق طبقات النّفس البشريّة، حيث يتقاطع الوعي بالذّنب مع رغبة الخلاص، وتتحوًل العاطفة إلى صراعٍ مأزومٍ بين الإنسان وجذوره الأولى. هنا، لا يتحدّث النّصّ عن علاقة جسديّة فحسب، بل عن رحلةٍ رمزيّةٍ داخل متاهة الذّات، حيث يتجلّى أثر الأمّ وصوت التّوبيخ، والحرمان العاطفي الّذي ينحت الرّوح حتّى الانفجار. استعرتها من الفضاء الكافكاوي، ظلاله الثّقيلة، ومن الفلسفة الوجوديّة، قلقها العميق، لأُقدّم مشهدًا من دراما الكبت والتّحوّل العدميّ، حيث يمتزج الجمال بالموت، والحبّ بالجنون، والّدفء بالثّلج المتساقط خلف النّافذة. لغته المشحونة بالإيقاع والرّمز تمنح النّصّ بُعدًا بصريًّا وسينمائيًّا، يجعل القارئ يعيش داخل المشهد، يسمع أنفاس البطل، ويرى سقوط الجسد في لحظة انهيارٍ وجوديٍّ لا رجعة بعدها. إنّها ليست قصّة عن جريمة، بل عن انفجار الذّات أمام مرايا الخوف والحنين. “عواطف مكبوتة” ليست سوى مرآة لروحٍ تاهت بين الطّفولة والرّغبة، بين الإثم والتّوبة، لتتلاشى أخيرًا في فضاءٍ عدميٍّ صامت… كخاتمةٍ لكلّ إنسانٍ عجز عن مصالحة نفسه.
النّصّ
في ليلةٍ شديدةِ الجليد…
امتزجت ضحكاتُها مع قهقهاتِ الرّيحِ المتكسّرةِ على زجاجِ الغرفةِ الخلفيّة،
المطلّةِ على فرندةٍ تزيّنها فازاتٌ فخاريّةٌ تتدلّى منها زهورٌ جميلة.
تتهادى الأجواءُ الدّافئةُ في صمتٍ مخمليّ،
وهي مستلقيةٌ على فراشٍ سندسيٍّ،
يسترها ثوبٌ إستبرقيٌّ شفيف…
وقلبُه يتراقصُ طربًا.
كانت ترنو إليه…
من خلالِ إيماءاتِ أناملِها النّاعمة،
ليَرتمي في أحضانِها كطفلٍ رضيعٍ فاقدٍ حنانَ أمِّه.
لكنّه خجِلٌ… متردّد،
كأنّه ما يزال يعيشُ في عزلته،
متكوّرًا على ذاته،
يتذكّرُ تبعيّتَه الشّديدةَ لأمّه،
وتوبيخَها له حين تراه مع الجارةِ الجميلة،
يتلصّصُ عليها عند عودتِها،
وهي تخلعُ ملابسَها…
كتلصّصِ “كافكا” على ذاته المأزومةِ بالاغتراب.
تناولَ قدحَ النّسيان،
من شرابٍ اعتادَ عليه ليُخفي خجلَه وارتباكَه.
اقتربت منه مترنّحةً،
برقصاتٍ هادئةٍ كأمواجِ موسيقى “موزارت” الحالمة،
فبعثت في جسدهِ خَدَرًا…
تسرّبَ بلذّةٍ إلى روحهِ الهائمةِ العطشى.
تلوّى بين ذراعيها كثعبانٍ يطبِقُ على فريستِه…
ليبتلعَها.
حتّى تهاوى جسدُها الغضُّ أرضًا…
جثّةً هامدة.
نظر إليها بعينينِ تلاشت جفونُهما في حركةٍ بانوراميّةٍ شاملة،
والدّمعُ ينهمرُ بصمتٍ…
صمتِ القبور.
لم يُسمَع إلّا لهاثُه…
حتّى فاجأ السّكونَ صرخةٌ زلزلت أركانَ الغرفةِ الأبنوسيّة،
صرخةُ بدايةِ انفصامِه…
تلاقت مع دويّ الرّعدِ في الخارج،
والثّلجُ يتساقطُ بكثافةٍ،
يقرعُ نوافذَ غرفته،
والعرقُ يتصبّبُ من جسدهِ كسقوطِ الماءِ من دوشِ الحمّام.
دبّت الحياةُ فيه،
وتلاشت عدوانيّتُه…
جلسَ في زاويةِ زنزانتِه،
هادئًا، لا يألُو جهدًا عن إزاحةِ ذبابةٍ عن وجهِه،
كأنّه طفلٌ وديعٌ ينتظرُ نهايتَه المحتومة…
سائرًا إلى عدَميّتِه.
تأمّل ختامي
في نهاية هذا النّصّ ، لا نرى مجرًد بطلٍ ارتكب فعلًا مأساويًا، بل إنسانًا انكسر تحت وطأة كبتٍ طويلٍ، فبحث عن خلاصٍ في أقصى حدود الخطأ. إنّه نموذج للرّوح الّتي لم تتعلّم كيف تُحبّ دون خوف، ولم تُدرك أنّ الحرّيّة الحقيقيّة ليست في الانفلات من القيود، بل في مصالحة الدّاخل الممزق بين الرّغبة والضّمير. هكذا أترككم أمام مشهدٍ رمزيٍّ بامتياز، حيث يتحوّل الجسد إلى فكرة، والفعل إلى سؤالٍ وجوديٍّ مفتوحٍ على الغياب: هل نحن حقًّا أحرار في مشاعرنا؟ أم أنّنا كائناتٌ تصنعها قيود الماضي وتعيد إنتاج مآسيها في صورٍ جديدة من الحب والذّنب؟ إنّ “عواطف مكبوتة” ليست مجرّد قصّة، بل مرثيّة صامتة للإنسان حين ينهار من الدّاخل، فيتلاشى بين أنقاض ذاته… بحثًا عن دفءٍ لن يجده إلا حين يتصالح مع ظلّه.






































