كتب … حميد بركي
ثلاثيّة الرّثاء …
الكبد في الجسد هو العضو الصّامت، العامل بلا ضجيج، الّذي يصفّي الدّم من السّموم وينقّي ما يمرّ عبره من شوائب، لكنّه حين يتكلّم، إن صحّ التّعبير، لا يُحسن التّعبير، لأنّ وظيفته ليست البيان ولا التوازن العاطفي، إنّما التّنقية الكيميائيّة الّتي لا تخضع للحن أو معنى، في المقابل، للعقل منطقه، وللقلب نبضه، ولكلٍّ منطق يليق به. العقل حين يتكلّم، يستند إلى تراكمات من المعرفة والتّجربة والتّحليل، يميل إلى الوضوح والمنطق والتّرتيب، أمّا القلب، فحين يتكلّم، يرسل إشاراته على هيئة مشاعر قد لا تكون مرتّبة أو واضحة، لكنّها صادقة، تُفهم بعمق رغم غموضها أحيانًا، ولهذا يمكن أن نقسم عبارة الشّعر إلى ثلاثة أنواع: كلمة عقل، وكلمة قلب، وكلمة كبد، حيث تختلف العبارة وتتوحّد المشاعر، بينما يشكّل العقل والقلب محورَي الفهم والتّعبير في الإنسان، يأتي الكبد كتذكير أنّ بعض الأعضاء رغم عِظم دورها في البقاء، لا تصلح لتولّي مهام ليست من شأنها، الكبد لا يصوغ جملة، لا يرتّب فكرة، إنّه يفلتر الدّم لا الكلمات، ولذلك حين يُشَبَّه بأن له كلامًا، يكون هذا الكلام حادًّا، فوضويًا، يفتقر إلى الانضباط والوزن، كأنّ الدّم الذي صفّاه ما زال يحمل سمومًا لم تخرج تمامًا، فتتسرّب إلى التّعبير، وبغياب العقل وتراجع القلب، يصعد صوت الكبد، صوت الغضب المتخثّر، الانفعال غير المهذّب، التّعبير العشوائي الّذي لا يبحث عن فهم أو تفاهم، عن تفريغ، هو حالة الإنسان حين ينهكه التّراكم، حين لا يعود للمنطق قدرة على التّنظيم، ولا للمشاعر طاقة على التّحمّل، فيتكلّم من داخله عمق غامض لا يعرف كيف يصوغ ألمه، فيخرج عن الصّواب، لا لأنّه لا يشعر، لأنّه لا يجيد القول
في لحظات معيّنة من الحياة، نجد أنفسنا لا نفكّر بعقولنا، لا نشعر بقلوبنا، نتفاعل بأحشاء أعمق، بردود فعل ليست موزونة ولا محسوبة، نقول ما لا نعني، نقسو دون ضرورة، لا لأنّنا لا نعرف الرّحمة، ولكن لأنّ التّعب، كالسّمّ، يجري في دمنا الّذي مرّ على الكبد مرارًا، ومع ذلك لم يُصفّ تمامًا
، إذ إن التّعبير الصّادق لا يكفي أن يكون نابعًا من الألم، يجب أن يكون مصفّى من شوائب الانفعال والاندفاع والاضطراب. وهذا ما لا يستطيع الكبد فعله، لأنّه ليس مسؤولًا عن اللّغة ولا عن التّقدير، عن البقاء. أمّا العقل والقلب، فهما اللّذان يشكّلان معًا نغمة التّوازن، حيث يتحّدث الأوّل بحكمة، ويترجم الثّاني بنبض الحياة.
وحين نسمح له أن يتكلم بدلًا من العقل أو القلب، نرتكب خطأ لا نلاحظه فورًا، يترك أثره في نفوس الآخرين وفي ذواتنا. نجرح دون أن نقصد، نثور دون أن نخطّط، نتكلّم بكلمات لا تحمل نُبل النّيّة ولا وضوح الفكرة، فقط ضغط الدّاخل، صوت الجسد حين يُنهكه التّراكم ولا يجد سبيلاً آخر للتّعبير
الصّواب لا يكون دائمًا في ما نقوله، في من يتكلّم داخلنا. فإن نطق العقل، تولّد الفهم، وإن نطق القلب، عمّ الشّعور، أمّا إذا نطق الكبد، فلن يكون الصّوت سوى صدى تعبٍ لم يجد مخرجًا
الرّثاء هو لحظة إنسانيّة يتقاطع فيها العقل بالحزن، والقلب بالفقد، والكبد بالألم المتغلغل في الأعماق. هو محاولة لاحتواء الغياب بفكرٍ يحاول أن يفسّر ما لا يُفسَّر، وبقلبٍ يحسّ ما لا يُقال، وبوجدانٍ ينبض بما لا يمكن كبته أو تجاهله.
منطق العقل يظهر في الرّثاء حين يحاول الإنسان أن يمنح لفقده تفسيرًا، أن يبحث عن حكمة في الموت، أن يربط بين النّهاية ومجريات الحياة، أن يجد لغة تليق بمن رحل دون أن ينساق تمامًا خلف العاطفة، هو العقل الّذي يُنظّم الفكرة، يُرتّب الذّكرى، يضبط الحروف حتى لا تنفلت الكلمات إلى فوضى لا معنى لها.
أمّا القلب، فهو الّذي يفتح نوافذ الذّكرى، يُعيد تفاصيل الرّاحل، يختزن الدفء، ويطلقه في سطور صامتة لكنّها نابضة، في مشهد واحد، في نغمة صوت، في ضحكةٍ لن تتكرّر. القلب لا يكتب الرّثاء بحبر، يكتبه من نبضه، فيجعل من كلّ عبارة لمسة حنين، ومن كلّ سطر اعترافًا بالخسارة التي لا تُعوّض، ثمّ تأتي الوجدانيّة العميقة، الّتي تشبه حديث الكبد، لا من حيث الفوضى، ولكن من حيث العمق غير المنطوق. في الرّثاء تخرج الكلمات محمّلة بشيء يصعب تعريفه، لا هو من العقل، لا هو فقط من القلب، إنّه شعور داخلي خام، نابع من أماكن لا تُرى، يعبّر عن ألمٍ لا يُوصف، عن ضيقٍ في الصّدر، عن دموعٍ تتخفّى خلف الحروف.
بهذا يندمج الرّثاء في كُلّية الإنسان، في فكره، في عاطفته، في وجعه، ليصير نوعًا فريدًا من القول، لا هو عقلٌ بارد، لا عاطفةٌ عابرة، لا مجرّد وجدانٍ منفعل، هو كلّ ذلك حين يلتقي على ورقة واحدة، بصوت واحد، في لحظة صدقٍ مطلقة أمام الغياب
يبقى الإيحاء بالعقل والقلب والكبد، في سياق التّعبير الإنساني، أقرب إلى رموز دلالية تُستَحضر لتقريب المعنى، لا لتمثيل حقيقي لأعضاء بعينها، إذ إن جوهر العبارة، في لحظات صدقها الوجدانيّ، يتجاوز تلك الإشارات العضويّة إلى ما هو أعمق وأصدق، حيث يسكن الإحساس ويترقرق الشّعور في طبقات من المعنى لا تُدرك بالحواس، وإنّما تُلمَس بالبصيرة
كتب … حميد بركي
HAMid BARki






































