الخوفُ والخرافةُ: رحلةٌ في أعماقِ النّفسِ البشريّةِ ..
بقلم : سلمى صوفاناتي
الخوفُ، ذلكَ السّحابةُ الأولى الّتي تغشى نورَ العقلِ، والجهلُ، تلكَ التّربةُ الّتي تنبتُ فيها بذورُ الأوهامِ، رفقاءُ الإنسانِ منذ بزوغِ فجرهِ في هذا الكونِ الصّامتِ. ومن أعماقِ العجزِ الإنسانيِّ، ومن وحدةِ الرّوحِ والذّاتِ، تنبثقُ الخرافةُ كحلمٍ يوقِظهُ الإنسانُ ليختبئَ فيهِ من فزعِ المجهولِ، أو ليعبرَ به جسرًا هشًّا من ضفةِ الضّعفِ إلى ضفّةِ اليقينِ الزّائفِ. إنّها دخانٌ يتلوّى أمامَ العينِ، يظنُّ الإنسانُ أنّه يحميهِ، بينما يزيدهُ رهبةً، ويعمّقُ في قلبهِ عجزًا لا يراهُ إلّا بصوتِ القلبِ الدّاخليِّ.
– نشأةُ الخرافةِ: صرخةُ الإنسانِ أمامَ اللّامعنى ..
الخرافةُ ليستْ مجردَ أسطورةٍ تُروى، بل هي صرخةُ الإنسانِ الأوّلِ أمامَ عالمٍ صامتٍ لا يجيبُ عن سؤالٍ، ولا يملأُ فراغًا. رأى في الرّعدِ غضبًا، وفي البرقِ ابتسامةً شريرةً، وفي الزّلزالِ علامةً على لعنةٍ كونيّةٍ. ومن رحمِ هذا الرّعبِ الوجوديِّ وُلدتِ الخرافةُ كتعويضٍ عن الجهلِ، كصرخةِ قلبٍ يفتّشُ عن معنى—أيّ معنى—في عالمٍ يبدو بلا معنىٍ. لم تُصنعِ الخرافةُ من عقلٍ يطلبُ الحقيقةَ، بل من قلبٍ ضائعٍ يفتّشُ عن شعاعِ أمانٍ وهميٍّ، عن شعاعٍ يخفّفُ رعبَهُ ويهدّئُ اضطرابَهُ.
-الخرافةُ كإرثٍ ثقافيٍّ: عندما يتحوّلُ الخوفُ إلى تراثٍ ..
تمرُّ الخرافةُ من جيلٍ إلى جيلٍ كإرثٍ ثقافيٍّ، لكنّها إرثٌ من الخوفِ المتراكمِ، من القلقِ الّذي يسكنُ أعماقَ النّفسِ البشريّةِ. حين يعلّمُ الجدُّ حفيدهُ رشَّ الملحِ في زوايا البيتِ، أو تعليقَ حذوةِ حصانٍ على البابِ، فهو لا يورّثُ عادةً فحسب، بل ينقلُ خوفًا متوارثًا عبرَ القرونِ، مغلّفًا بحكمةٍ زائفةٍ. وهكذا تصبحُ الخرافةُ دينًا شعبيًّا غيرَ مكتوبٍ، يمارسُ بطقوسٍ يقدّسُها النّاسُ، ويظنّون أنّها حقٌّ من حقوقِ الوجودِ، بينما هي مجرّد صدى رعبٍ قديمٍ يتردّدُ عبرَ الأجيالِ.
– سلطانُ الخرافةِ: القوّةُ المستعارةُ من ضعفِ الإنسانِ ..
الخرافةُ لا تمتلكُ قوّةً بذاتها، بل تستمدُّ سلطانَها من خوفِنا نحنُ. إنّها مرآةٌ لهشاشتِنا أمامَ المجهولِ، وضعفِنا أمامَ المصيرِ. لا تمنحُك يقينًا، بل تسلبُ يقينَك، لا تحميك من القدرِ، بل تبيعُك وهمَ السّيطرةِ عليهِ. الحذوةُ قطعةُ حديدٍ صدئةٍ، والمقصُّ مجرّدُ أداةٍ، لكنّ العينَ الخائفةَ ترى فيهما نوافذَ على الغيبِ، وتظنُّ أنّها تدركُ ما وراءَ الحجابِ. الخرافةُ إذاً ليست إلّا ظلالًا تنمو من نورِ الخوفِ، وتستعينُ بعتمةِ النّفسِ لتكبرَ.
-البركةُ: النّفحةُ الإلهيّةُ الّتي لا تُشترى بالخرافاتِ ..
أمّا البركةُ فهي شأنٌ آخرُ. إنّها نفحةٌ من اللهِ لا تُقاسُ بالتّمائمِ، ولا بكميّةِ الملحِ. هي نورٌ يضعهُ الخالقُ حيثُ يشاءُ: في قلوبِ المتّقينَ، في بيوتِ العابدينَ، وفي أرزاقِ الصّادقينَ. البركةُ لا تُستجلَبُ بالتّعاويذِ، ولا تُستعارُ بالطّقوسِ، بل هي رزقٌ ربّانيٌّ لا يحدّه خوفٌ، ولا تجلبهُ أوهامٌ، هي شعاعٌ ينيرُ القلبَ قبلَ أن يضيءَ العالمَ.
– الخرافةُ والعلمُ: صراعُ الوجودِ والعدمِ ..
قد تعيشُ الخرافةُ آلافَ السّنينَ لأنّها تتغذّى على الخوفِ، والخوفُ أقدمُ من البشريّةِ. أمّا العلمُ فهو ابنُ الشّجاعةِ الفكريّةِ، وابنُ العقلِ الّذي يرفضُ اليقينَ الزّائفَ. الخرافةُ تأمرك بالخضوعِ، والعلمُ يدعوك للسّؤالِ والتّفكيرِ. الأولى تقول: “لا تفكّرْ”، والثّاني يقول: “تجرّأ على المعرفةِ، تجرّأ على الحقيقةِ”. العلمُ شعاعٌ يقتحمُ ظلماتِ الخرافةِ، يبدّدُ ضبابَها، ويكشفُ ما خفي في أعماقِ النّفسِ البشريّةِ.
– نهايةُ الخرافةِ: إشراقُ نورِ العقلِ ..
حين يشرقُ فجرُ المعرفةِ، وتنكشفُ حقائقُ الوجودِ، تذوبُ الأوهامُ كما يذوبُ الثّلجُ تحتَ شمسِ الرّبيعِ. ويبقى القدرُ كما هو، عظيمًا صامتًا، لا تغيّرُه تعويذةٌ، ولا تحرّكهُ خرافةٌ. الخرافةُ تموتُ حين يجرؤُ الإنسانُ على النّظرِ في عتمةِ نفسهِ، حين يرفعُ جدارَ الخوفِ في قلبهِ، ويضعُ على بابهِ مفتاحَ العقلِ.
– خاتمةٌ :
الخرافةُ جدارٌ يبنيه الإنسانُ بينه وبين المجهولِ، لا يدري أن ارتفاعَ الجدارِ يزيدُ من ظلّهِ، ويعمّقُ خوفَهُ. والحقيقةُ الّتي لا مفرَّ منها: الخرافةُ ليست سوى قفصٍ من الخوفِ، صنعه الإنسانُ، ونسي أنّه هو من يحمل مفتاحَهُ. وما أعظم أن يعرفَ الإنسانُ في نهايةِ المطافِ، أنّ نورَ العقلِ وحده كافٍ لهدمِ هذا القفصِ، وأنّه لا عزّةَ إلّا في مواجهةِ الحقيقةِ بلا أوهامٍ، وأنّ الخوفَ الّذي يظنّهُ خصمًا قد يكون معلّمًا إذا أحسنَ الإنسانُ الاستماعَ إليهِ.






































