بقلم … للاإيمان الشباني
هم أربعة من أزمنة مختلفة …
…
كما تُضيء الشُّهب، تتقاطع مصائر الشّعراء والمفكّرين على امتداد الزّمن، ليولد حوار صامت بين الأحياء والأموات، بين ماضٍ عظيم وحاضر لا يقلّ عظمة. هناك، حيث تلتقي ريشةُ المتنبي بفكرِ الشّافعي، وتتجاور حكمةُ طَرَفة بن العبد مع نبضِ الشّاعر المغربي المعاصر حميد بركي، ينشأ جسرٌ من نور، لا زمن يُطفئه ولا حدود تُقيّده.
المتنبّي، ذلك الّذي جعل من الشّعر دولةً مستقلة، ورفع ذاته إلى مقامٍ فوق السّلاطين، لم يكن مجرّد شاعر، وهو الكلمة النّابضة ، سليل المعاني الثّقيلة الّتي لا تنحني، رأى في نفسه أمّةً كاملة، فحاور القدر، وخاصم الزّمن، وتحدّى الغدر، ليترك في ذاكرة العرب كبرياءً لغويًّا قلّ نظيره. وهو القائل
هُوَ البَحرُ غُص فيهِ إِذا كانَ ساكِناً
عَلى الدُرِّ وَاِحذَرهُ إِذا كانَ مُزبِدا
فَإِنّي رَأَيتُ البَحرَ يَعثُرُ بِالفَتى
وَهَذا الَّذي يَأتي الفَتى مُتَعَمِّدا
وفي ركن آخر من الفكر، يقف الإمام الشّافعي بثوبه النّقيّ ولسانه العذب، فقيهًا وشاعرًا، ينسج من الحكمة بيوتًا يسكنها الصّدق، ويُعلّم كيف تكون الكلمة ميزانَ عقلٍ وروح، جمع بين صفاء القلب ودقّة العقل، فكان عالِمًا يُحبّ الجمال، وشاعرًا يُنير الظّلمة بالحجّة والبيان. وهو القائل :
رأيت النّاس قد مالوا
إلى من عنده مال
ومن لا عنده مال
فعنه النّاس قد مالوا
أما طرفة بن العبد، فقد جاء على هيئة برق، ظهر خاطفًا واختفى مبكّرًا، لكنّه أضاء سماء الشّعر بألقٍ لا يُنسى، كتب حكمته في وجدان الشّعر العربيّ، ومرّر تمرّده في طيّات المعلّقات، حتّى وهو في ريعان الشّباب، كان صوته أسبق من عمره، يتّكئ على السّخرية أحيانًا، وعلى النّبوغ دائمًا.ومن قوله :
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً
عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
فَذَرني وَخُلقي إِنَّني لَكَ شاكِرٌ
وَلَو حَلَّ بَيتي نائِياً عِندَ ضَرغَدِ
في هذا المشهد الممتدّ بين العصور، يظهر حميد بركي القائل :
ما عادَ يُفرِحُني شيءٌ، ولا عادَ
فِي الفَقْدِ يُحزِنُني إنْ غابَ أو عادَ
كأنَّ قَوْمَ ثمودٍ قد أتَوا عادًا
يَستَعرِضونَ عَبيدَ الدَّهرِ أسيادَا
كما لو أنه وريث هؤلاء، لا بالدّم، وإنّما هو الهمّ، لا بالكلمات وحدها، هي الرّؤية. هو شاعر لا يكتفي بالبديع، يسبر أغوار المعنى، ناقد يتأمّل الكلمة قبل أن ينطق بها، وفيلسوف ينحت الحروف نحتًا كما يُنحت التّمثال في صخر الزّمن. إذا تحدّث كان صوته كصوت المتنبّي في وجه الظّلم، وإذا كتب شعرًا انساب كما شعر الشّافعي رقراقًا، وإذا تأمّل الحياة تنبّأ بمرارتها كما فعل طرفة، لكنّه لا يغرق في الألم، وإنما يستخلص منه نورًا، وإنّ ما يجمع بين هؤلاء الأربعة ليس فقط حبّ الشّعر، بل شرف الكلمة، وجرأة الموقف، والصّدق مع النّفس، إذ كلّ منهم قاوم بطريقته، المتنبّي بالزًًّّهو، الشّافعي بالحكمة، طرفة بالمرارة، وحميد بركي بالحبّ والحكمة معًا، لم يكونوا أتباع زمن، وهم صانعوه، يواجهون الصّمت بالصّوت، والخذلان بالإبداع، والزّككككيف بالحق.
وهكذا، حين نقرأ حميد بركي، كأنّنا نسمع همس المتنبّي، ونرى بصيرة الشّافعي، ونشعر بشجن طرفة، لأنّ الشّعر حين يكون صادقًا، يُنجب إخوته من كلّ عصر، لا يموتون، بل يظلّون أحياءً فينا، نردّد صداهم كلّما استوحشنا الزّمن.
بقلم … للاإيمان الشباني






































