رأفتُ الهجانُ: العابرُ في مملكةِ الظلِّ .. من أرشيفِ المخابراتِ المصريّةِ ..
بقلمِ: سلمى صوفاناتي
في أزقّةِ القاهرةِ الّتي تختزنُ أسرارًا أقدمَ من التّاريخِ، يُحكى عن رجلٍ لم يكنْ مجرّدَ اسمٍ يتردّدُ بين الحاراتِ، بل كان ظلًّا يتحرّكُ بين ضوءِ المصابيحِ وعتمةِ الأقدارِ. رأفتُ الهجانُ.. ذلك الشّبحُ الّذي لم يُولدْ من رحمِ العادةِ، بل من رحمِ الضّرورةِ. لم يخرجْ لينتقمَ لدمٍ سالَ، أو ليكسرَ عظامَ ظالمٍ، بل ليحفرَ في صخرِ الخيانةِ نفقًا ينفذُ منه نورُ الحرّيّةِ.
كان مصيرًا قبل أن يكونَ رجلًا.. اغتال هويّتَهُ كي تحيا أمّتُهُ، ودفن اسمَهُ في أعماقِ النّيلِ ليُبعثَ من جديدٍ كشخصٍ لا يعرفُ نفسَهُ. صار غريبًا في المرايا، وحيدًا في الاحتفالاتِ، وحزينًا في انتصاراتِه. لكنَّهُ، في قلوبِ الّذين عرفوا الحكايةَ، صار أسطورةً تُروى بالهمسِ.
_ الدّراما المصريّةُ: حيث تُخلّدُ الأسرارُ ..
لا يُعقلُ أن تظلّ حكايتُهُ حبيسةَ الأدراجِ السّريّةِ.. كان لا بدّ للفنِّ أن يُمسك بتلابيبِ الواقعِ، ويصوغَ منه ملحمةً تذوبُ فيها الحدودُ بين الحقيقةِ والخيالِ.
_ “صالحُ مرسي”: الكاتبُ الّذي حوّل الوثائقَ السّريّةَ إلى نبضٍ حيٍّ، لم يكتبْ بروحِ المؤرّخِ، بل بروحِ الشّاعرِ الّذي يقرأُ ما بين السّطورِ. انتشل من دهاليزِ المخابراتِ شخصيّةً كاملةً بكلِّ تناقضاتِها، وأهداها للجمهورِ كجوهرةٍ مضيئةٍ.
_ “يحيى العلمي”: المخرجُ الّذي رأى في الكاميرا مرآةً للضّميرِ، لم يُصوّر مشاهدَ فحسبْ، بل صوّر أشواقَ الوطنِ الغائبِ. جعل من كلِّ لقطةٍ قصيدةً صامتةً، ومن كلِّ صمتٍ صرخةً مدويّةً.
_”محمودُ عبدُ العزيزِ”: الرّجلُ الّذي حوّل التّمثيلَ إلى وجودٍ موازٍ، لم يُقلّد شخصيّةَ الهجانِ، بل عاشها بعمقٍ يُذيب الفرقَ بين الممثّلِ والبطولةِ. كان صوتُهُ خافتًا كندى الفجرِ، لكنَّهُ اخترق القلوبَ كرعدٍ لا يُسكتُ.
وبجوارهِ، وقف فريقٌ من النّجومِ كأنّهم حُرّاسٌ لهذه الأسطورةِ: يوسفُ شعبانَ بوقارِه، يسرا بجمالِها الحزينِ، نبيلُ الحلفاوي بصلابتِه، وكأنّهم جميعًا أوركسترا تعزفُ سيمفونيّةَ الوطنِ بصمتٍ.
_الغربةُ.. موطنُ الأسماءِ المستعارةِ ..
ما أقسى أن تحملَ قلبًا ممزّقًا بين حبِّ الوطنِ وخيانةِ المظهرِ! كان الهجّانُ يسيرُ في قصورِ الأعداءِ مبتسمًا، لكن دماءَهُ كانت تصرخُ في الدّاخلِ. كان يبيعُ وجهَهُ كي يشتريَ شرفَ أمّتِهِ، ويُقسمُ كاذبًا كي تظلّ أرضُ بلادِه صادقةً.
الغربةُ لم تكنْ مسافةً جغرافيّةً، بل كانت جرحًا نازفًا في خاصرةِ الرّوحِ. كان يعلمُ أنّ كلَّ كذبةٍ يقولُها هي طوبةٌ يبني بها سورًا يحمي مصرَ، وكلَّ دمعةٍ يُخبّئُها هي وقودٌ لشعلةٍ لا تنطفئُ.
_ نهايةٌ لا تنتهي ..
لم تُختتمْ قصّتُهُ باحتفالٍ أو نعيٍ رسميٍّ.. عاد كما جاء، صامتًا كالنّسيمِ، اختفى في زحمةِ الحياةِ وكأنّهُ لم يكنْ. لكنّ الأساطيرَ لا تموتُ، بل تتحوّل إلى نورٍ يسكنُ الذّاكرةَ.
رأفتُ الهجّانُ لم يكنْ مجرّدَ رجلِ مخابراتٍ محنّكٍ، بل كان مرآةً عكستْ معنى الوطنِ حين يكونُ أثمنَ من النّفسِ. حكايتهُ بلا جثّةٍ لأنّ الأبطالَ لا يموتون، وبلا نهايةٍ لأنّ مصرَ دائمًا تلدُ من رحمِ المعاناةِ أبطالًا جددًا.
سيبقى سؤالًا يتردّد في أذنِ الزّمنِ: “هل يعرفُ الوطنُ حجمَ التّضحيةِ؟” ربّما لا.. لكنّ التّاريخَ يعرفُ، والشّرفاءُ يعرفون.
وتبقى كلماتُهُ الأخيرةُ تُرنُّ في اللاوعي الجمعيِّ:
“مصر.. لا تُسألْ عن ثمنِ بقائِها، فدماؤُنا كانت دائمًا العملةَ الوحيدةَ.”






































