الجوارحُ… نشيدٌ ملحميٌّ يزأرُ في صحراءِ الرّوحِ …
بقلمِ: سلمى صوفاناتي
في زوايا الزّمَنِ الّذي لا يُحصى، وتحت شمسٍ لا تغرُبُ، ترتفعُ الجوارحُ كصوتِ صدى لا ينطفِئُ، كوميضِ برقٍ يزيّنُ أفقَ الزّمانِ بألوانِ المجدِ والدّهرِ. ليستْ قبيلةً ولا مجردَ أسماءٍ تدافعُ عن الأرضِ، بل هي رمزٌ للرّوحِ الّتي يشتعلُ حطبُها في لهيبِ الاختبارِ، وترتقي على أجنحةِ الألمِ إلى سماءِ العظمةِ.
_ حينَ تَتشكّلُ الأسطورةُ من رمادِ الزّمنِ ..
هناكَ، على هامشِ التّاريخِ، وقفَ الزّعيمُ العظيمُ ابن الوهّاج ، كحارسٍ للنّارِ القديمةِ الّتي لا تبرحُ أن تأكلَ الظّلامَ. رجلٌ لم يُولدْ ليحكمَ فقط، بل ليُمهّدَ دروبَ الولادةِ الجديدةِ للدّماءِ الّتي تنبضُ في صدورِ أولادِه الثّلاثةِ. كان يختبرُهم لا بالسّيفِ وحده، بل بنقاءِ القلوبِ، بعبءِ القيمِ الّتي لا تبرحُ من سطرِ الأسطورةِ.
_ ثلاثةُ أبناءٍ، ثلاثُ رياحٍ تتصارعُ في عاصفةٍ واحدةٍ:
الباشق ، عاصفةُ الغضبِ الّتي تزمجرُ في أعماقِ الصّحراءِ، تلهثُ على أطلالِ البراءةِ، لا يرويها سوى دمُ السّيوفِ.
أسامةُ، ضبابُ الخداعِ والدّهاءِ، ينسجُ خيوطَ السّياسةِ من رحمِ الظّلالِ، ينسى الطّريقَ بين الحقيقةِ والوهمِ.
عقاب ، الطّائرُ النّبيلُ، صهيلُ الرّيحِ الحاملةِ لوعدِ الصّباحِ، صوتُ الأملِ الّذي لا يختفي في ظلماتِ الغدرِ.
_ الصحراءُ: القلبُ النّابضُ والمرآةُ العاكسةُ
لم تكنِ الصّحراءُ مجرّدَ مشهدٍ خلفيٍّ، بل كانت روحَ الحكايةِ ونبضَها الأسمى.
جبالُها كأنّها حراسُ سرٍّ قديمٍ، تهمسُ للرّيحِ قصصَ البطولةِ والخيانةِ، وتخلّدُ الأساطيرَ في طبقاتِ الحجرِ والرّملِ.
تلكَ الأرضُ الّتي اختلطَ فيها العطشُ بالدّماءِ، حيث يتعلّمُ الإنسانُ درسَ الخلودِ والفناءِ في آنٍ معًا.
_الجوارحُ… الطّائرُ الّذي لا يُروّضُ ..
الطّائرُ الجارحُ في أساطيرِنا هو الّرمزُ الّذي يحملُ بينَ مخالبهِ حكايةَ الإنسانِ: يعلو عاليًا في السّماءِ، يراقبُ، يصطادُ، لكنّه يظلُّ وحيدًا في صراعِه مع الرّيحِ والزّمانِ.
هكذا هو المسلسلُ، طائرٌ يرفرفُ بينَ مشاهدِ الدّمعةِ والدّماءِ، يحملنا على أجنحتهِ بين السّماءِ والرّمالِ، بين الحلمِ والقدرِ.
_هانيِ السَعديِ: عقلٌ مبدعٌ وراءَ ملحمةِ «الجوارحِ» ..
حيثُ وضعَ بيدهِ عبقريّةَ التّأليف وعمقَ البناءِ الدّراميِّ الّذي أسّسَ عليهِ هذهِ الملحمةِ. استطاعَ السّعديُّ أن يصيغَ عبرَ نصِّه سردًا ينبضُ بالحياةِ، يعكسُ صراعاتِ الإنسانِ النّفسيّةِ والاجتماعيّةِ، ويُبرزُ الصّحراءَ العربيةَ كفضاءِ أسطوريٍّ يحملُ بينَ رمالهِ قصصَ البطولةِ والخياناتِ. عبرَ خيالِهِ الواسعِ وكتابَتِهِ المشحونةِ بالعواطفِ، منحَ «الجوارحُ» روحًا فريدةً وقصةً تستحقُّ أن تُروى لأجيالٍ.
_ الأبناءُ: ألوانُ النّفسِ البشريّةِ
تتناغمُ في «الجوارحِ» أشكالُ النّفسِ، كأنّها سيمفونيّةٌ أزليّةٌ:
رعدٌ: صوتُ الغرائزِ البدائيّةِ، شهوةُ القوّةِ الّتي تبتلعُ كلَّ شيءٍ إلّا ذاتَها.
أسامةُ: عقلٌ متلونٌ، يختبئُ وراءَ أقنعةِ التّلاعبِ والكذبِ، صراعٌ بين الحقيقةِ والمراوغةِ.
هيثمُ: صدى النّقاءِ، صوتُ الوفاءِ الّذي لا يخبو، العزّةُ الّتي تصارعُ الهوانَ.
إنّهم لا يمثّلونَ فقط شخصياتٍ دراميّةً، بل أطيافُ النّفسِ الّتي نعرفُها جميعًا، من انتصرَ في معركتِها؟ لا يزالُ السّؤالُ يُطارِدُنا في ظلالِ المسلسلِ.
_ العنقاءُ: ابنةُ الوهّاجِ والنّارُ الّتي لا تموتُ ..
لم تكن العنقاءُ، الابنةُ الرّابعةُ لابنِ الوهاجِ، كباقي النّساءِ؛ بل كانت وهجًا من تمرُّدٍ وحلمٍ.
ورثتْ الكبرياءَ، ورفضتْ أن تكونَ ظلًّا لأحدٍ.
كلّما احترقتْ بخذلانٍ، عادتْ أقوى، كما يليقُ بمن تحملُ اسمَ العنقاءِ…
الفتاةُ الّتي ولدتْ من الرّمادِ، لتُصبحَ رمزًا للصّمودِ، لا يغيبُ.
_ الموسيقىُ: لغةُ الرّوحِ السّحريّةُ
حينَ تبدأُ أنغامُ «الجوارحِ»، يغيبُ الزّمنُ، ويبدأ القلبُ بالحكي.
الطّبولُ تدقُّ كدقّاتِ القلبِ في لحظةِ استعدادٍ للمعركةِ، والوتراتُ تغنّي قصائدَ الحزنِ والرّجاءِ.
الموسيقى ليستْ مرافقةً، بل راويةُ الصّمتِ، تحكي ما لا يُقالُ، تُنقلنا من ساحةِ القتالِ إلى عمقِ الوجدِ.
كانت موسيقى المسلسلِ جسراً بينَ المشاهدِ وعالمِ الأسطورةِ، تغمرُ الرّوحَ وتنبضُ في العروقِ، حتّى يشعرَ المشاهدُ أنّه ليسَ مجرّدَ شاهِدٍ، بل فاعلٌ مشاركٌ في الملحمةِ.
_ الإخراجُ والتّمثيلُ: لوحةٌ حيّةٌ من صراعِ النّفسِ ..
المخرجُ نجدةُ إسماعيلَ أنزورَ، كالنّحاتِ الماهرِ، صاغَ بصريّةَ معركةِ الإنسانِ مع ذاتهِ، وجعلَ الكاميرا تترنّمُ في رحلاتِ الرّوحِ، من القسوةِ إلى اللّطفِ، من الغضبِ إلى الصّفحِ.
الممثلون لم يكونوا فقط مؤدّين، بل كانوا أبطالًا يحملونَ أعباءَ الأسطورةِ، ينقلونَ كلَّ ذبذبةٍ في القلبِ، كلَّ ارتعاشةٍ في الرّوحِ.
_ الصّراعُ الأبديُّ: الإنسانُ بينَ النّورِ والظلامِ
«الجوارحُ» ليستْ مجرّدَ قصةِ قبيلةٍ أو نزاعٍ على السّلطةِ، بل هي مرآةُ الإنسانِ مع نفسِه.
بين صراعاتِ القوّةِ، والخيانةِ، والوفاءِ، بين الطّغيانِ والعدلِ، تتكشّفُ معاناةُ الرّوحِ الإنسانيةِ الّتي تتخبّطُ بين اختيارين لا ثالثَ لهما: أن تكونَ نورًا أو ظلامًا.
_ ختامُ الأسطورةِ: أبديّةُ «الجوارحِ» ..
في زمنٍ ينسى فيه النًاسُ حكاياتِهم، تظلُّ «الجوارحُ» نجمةً ثابتةً في سماءِ الذّاكرةِ، أسطورةً تتنفّسُ في عروقِنا، تغنّي لنا عن كبرياءِ الرّوحِ، عن الألمِ الذّي يولّدُ الأبطالَ، عن الرّحلةِ الّتي لا تنتهي.
هي ليستْ مجرّدَ مسلسلٍ، بل نشيدُ الإنسانِ في صراعهِ، وعدٌ بألّا تنطفئَ جذوةُ الكرامةِ مهما هبّتْ رياحُ المحنِ …







































