قصّة الأطلال
كتب/ احمد مدكور
الشاعر – الطبيب – إبراهبم ناجي
زار محافظة بنى سويف عام 1935 لحضور مناسبة عائليّة حيث كان شقيقه محمد ناجي متزوجًا ويعمل في بني سويف ( بني سويف أوّل مدن الصّعيد من الشّمال وتبعد عن القاهرة 120 كم تقريباً ).
•••
من القاهرة استقلّ القطار ووصل إلى محطّة السّكًة الحديد وسط المدينة وذلك في السّاعة السّابعة مساء ليلة شتويّة شديدة البرودة. أمام المحطّة وجد شقيقه ينتظره واقفاً بجوار عربة ( حنطور ) – كان الحنطور من وسائل المواصلات الرّاقية داخل أحياء المدينة – فركب معه وقال للحوذي:
” حيّ مقبل يا أسطى” – وهو حيّ من أرقى أحياء المدينة حيث كانت تسكنه الأسر الارستقراطيّة – وبالفعل تحرّك الحوذي وإبراهيم ناجي بجواره ينظر بعينيه للشّوارع الخالية والبيوت السّاكنة… وسط حالة من الظّلام الكثيف يغطي المدينة وبناياتها الهادئة.
•••
وصل للبيت فوجد مجموعة من جيران شقيقه وأسرهم يواصلون الاحتفال – في الغالب كان عيدا للميلاد – فلمح من بين الحضور فتاة طاغية الجمال، ساحرة العيون، لبقة في الكلام، ممشوقة الجسد والقوام، تناقش وتناور وتطلق السّهام – سهام الجمال والدّلال – في كلّ ركن من المنزل فمال إلى شقيقه وسأله:
“منْ هذه الفتاة يا محمد ” ؟
ردّ: ابنة جيران لنا اسمها ( فتنة داود سليمان أبو ماضي – واسم الشّهرة زوزو ماضي ) هزّ ناجي رأسه وانهمك في اشعال سيجارته مع فنجان قهوة طارد به البرد الّذي سري في جسده منذ جاء والّذي زاد بالطّبع منذ أن غادر محطّة القطار.
•••
في نهاية السّهرة كان قد تعرّف عليها، واقترب منها ، وشعر بقشعريرة البرد في جسده تختفي – ليس من فعل السّيجارة أو القهوة بطبيعة الحال – وحلّتِ السّخونة مكان البرودة.. بعوامل الشوق والحبّ.
•••
في الحديث الدّائر بينهما لاحظ ثقافتها، وذكاء ردّها، وحبّها للشعر والأدب والفن.. وبعد حديثها الممتع قامت ومشت ناحية المطبخ فأمسك بعلبة سجائره وكتب على ظهرها:
“واثق الخطوة يمشي ملكًا
ظالم الحسن، شهيّ الكبرياء
عبق السّحر كأنفاس الرّبى
ساهم الطّرف كأحلام المساء
أين منّي مجلس أنت به
(فتنَة) – لاحظ أن اسمها( فتنة) – تمت سناء وسنا
وأنا حبّ وقلب هائم
وفراش حائر منك دنا
ومن الشّوق رسول بيننا
ونديم قدّم الكأس لنا”
الآن عادت من المطبخ – بدون كأس- حيث ودّعت صاحبة البيت – واستأذنت – مع أسرتها – وذهبت على وعد بلقاء.
•••
في صباح اليوم التّالى عاد إبراهيم ناجى للقاهرة ولم يذهب إلى بيته مباشرة، لكنّه ذهب إلى عيادته – كان من أفضل أطباء طبّ الباطنة في مصر – فوجد عدداً غير قليل من المرضى فطلب من التّمرجي دخولهم الواحد تلو الآخر بأسبقيّة الحضور.. لكنّه قبل دخول المرضى كتب يستكمل القصيدة:”
“هل رأى الحبّ سكارى مثلنا؟
كم بنينا من خيال حولنا
ومشينا في طريق مقمر
تثب الفرحة فيه قبلنا
وضحكنا ضحك طفلين معًا
وعدونا فسبقنا ظلّنا”
•••
كان المرضي في العيادة عشرة وقبل دخول المريض الأوّل دخل التّمرجي إليه مستأذنا:
” خير يا محمد عايز تقول حاجة”؟
— آه..يا دكتور
— قول..اتفضل
— المريض الأول ليس معه أجرة الكشف”
ردّ ناجي – بعدما وقف في مكانه – يدخل فورا”
— حاضر يا دكتور.
•••
وقبل دخول المريض كتب ناجي:
“وتولّى الليل والليل صديق
وإذا بالنّور نذيرٌ طالعٌ
وإذا بالفجر مطلٌ كالحريق
وإذا بالدنيا كما نعرفها
وإذا بالأحباب كلٌّ فى طريق”
وبعدما كتب الكلمات تحرّك من مكانه وانتظر المريض – أو استقبله – عند باب الحجرة قائلاً:
” اتفضل يا راجل..فلوس إيه..عيب تقول كده..قوللي الأوّل بتشتكى من إيه”؟
•••
وبعد الكشف عليه وخروجه دخل التًمرجي وكرّر نفس ما قاله عن المريض الأوّل مع المريض الثّاني: ( ليس معه أجرة الكشف ) وظلّ يفعل ذلك التّمرجي من الأوّل حتّى التّاسع فيما كان( ناجي) واقفا يستقبلهم الواحد تلو الآخر دون أن يتقاضى أيّ أجر إلى أن جاء دور المريض العاشر فدخل التّمرجي يضحك. فسأله ناجي:
” خير ..ما الّذي يضحك”؟ ردّ هو يواصل ضحكته:” أصل المريض ده بقي معاه فلوس الكشف “؟ فردّ :” طيب هاته”.
•••
دخل المريض وكشف عليه كعادته وبعدما خرج عاد التّمرجي لإبراهيم ناجي بثمن الكشف الوحيد فامسك به وسأله فيه:” حدّ تاني برة؟ رد : آه..فيه مريض” قال:
” طيب هاته”
فردّ:” لا..ده كشف خلاص..لكن ليس معه ثمن الدّواء ” فمدّ ناجي يده وأعطاه ثمن الكشف الوحيد الّذي تقاضاه وقال للتّمرجي:” إديله دول وشوف لو عايز حاجه تانية “؟
•••
في نهاية اليوم جلس إبراهيم ناجي إلى مكتبه يستكمل ما كتبه من أشعار – وربّما من بينها قصيدته الشّهيرة الأطلال – حيث المشاعر تكاد تخلع قلبه من مكانه منذ أن رأى ( فتنة أو زوزو) في بني سويف ( ولو لم تقدّم مدينة بني سويف – وهى بلدي ومسقط رأسي – للإنسانية سوى هذه القصيدة – أو كانت سببا فيها – لكفاها ذلك مجداً وفخراً وعظمة.
•••
وإن كان من غير المؤكّد أنّه كتب الأطلال حبّا وعشقا في ( زوز ماضي) أو في غيرها – فمن المؤكّد أن إبراهيم ناجي كان إنسانا، صادقا، طيّبا، خيِّرا، سويّا، مبدعا غير منافقا والمبدع؛ إذا لم يكن كذلك؛ فلا تشغل نفسك بما يقدّمه كثيراً؛ لأنّه زيف ( والزّيف عمره عمر “الوهم” ) لن يدوم طويلاً.. هكذا يخبرنا تاريخ الإنسانيّة.
•••
وقبل أن يغادر إبراهيم ناجي العيادة استكمل القصيدة قائلاً:
“يا حبيبي كل شيء بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعد ما عزّ اللقاء
فإذا أنكر خل خله
وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته
لا تقل شئنا فإن الحظ شاء”.
خيرى حسن
—————-
•• الأحداث حقيقيّة والسّيناريو من خيال الكاتب.
•• المصدر:
حديث تلفزيون قديم – للفنّانة زوزو ماضي –
•• الصّور:
إبراهيم ناجي
زوزو ماضي






































