“حوارٌ مع خيالٍ بصريٍّ: رحلةُ نورِ الدِّينِ الهاشمي بينَ الأصالةِ والمعاصرةِ”
بقلم : سلمى صوفاناتي
في زمنٍ تَسارعتْ فيهِ الإِيقاعاتُ، وتَكاثرتِ الصُّوَرُ حتى باتَتِ الفكرةُ تَكادُ تختنقُ تحتَ رُكامِ التَّكرارِ، يَنهضُ من بينِ أَزقَّةِ حَلبَ الشَّهْباءِ صوتٌ بصريٌّ خاصٌّ، يُعيدُ لِلتَّصميمِ رَونقَهُ الجَماليَّ العميقَ، ويَسكُبُ في عُيونِنا شيئًا من روحِ الشِّعرِ والخطِّ والزَّخرفةِ القديمةِ.
نورُ الدِّينِ الهاشمي، ذلكَ المُصمِّمُ الغرافيكيُّ، ليسَ مجرَّدَ صانِعِ صورٍ وألوانٍ، بل حارسُ ذاكرةٍ، ومُهندِسُ خيالٍ، يَمزجُ بينَ حميميَّةِ التُّراثِ ونبضِ الحداثةِ، ويَجعلُ من التَّصميمِ ساحةَ تَأمُّلٍ، لا شاشةَ استهلاكٍ.
– في هذا الحوارِ، نُصغي إلى مُبدعٍ يَرى في كُلِّ خَطٍّ مَجازًا، وفي كُلِّ لَونٍ احتمالاتٍ غيرَ مُنتهيةٍ. نُلامِسُ معهُ جوهرَ الفَنِّ، ونُسافِرُ عبرَ أجوبتِه من صَمتِ الفِكرةِ المُجرَّدةِ إلى صَخَبِ الصورةِ النَّابضةِ بالحياةِ. فَكأنَّ كلَّ كلمةٍ منهُ تَحملُ بينَ حُروفِها مِسْطرةَ الحِسِّ، وبوصلةَ الذَّوقِ، وهُويَّةَ المكانِ.
س١: تصاميمُكَ تَحمِلُ الكثيرَ من الزَّخارفِ والهندسةِ الرَّقميَّةِ، كيفَ تَدمجُ بينَ التُّراثِ العربيِّ والحَديثةِ في أعمالِكَ؟
– “في تَصاميمي أَحرِصُ على خَلقِ حالةٍ منَ التَّوازُنِ بينَ ذاكرةِ المكانِ وروحِ العَصرِ. فَالزَّخارفُ العربيَّةُ ليستْ بالنِّسبةِ لي مُجرَّدَ أنماطٍ بصريَّةٍ، بل هيَ لغةٌ بصريَّةٌ تُعبِّرُ عن هُويَّةٍ حَضاريَّةٍ مُتجذِّرَةٍ، تَحمِلُ في تَفاصيلِها دفءَ التَّاريخِ وعَبَقَ الحِكاياتِ القَديمةِ. حينَ أَدمِجُها بالهندسةِ الرَّقميَّةِ والتِّقنيَّاتِ الحَديثةِ، فإنَّني لا أَسعى فقطْ إلى الجَمالِ الشَّكليِّ، بل إلى بَعثِ الحَياةِ في تُراثِنا، عَبرَ أَدواتِ الحاضِرِ. التَّصميمُ عندي ليسَ مُجرَّدَ عَمَلٍ فَنِّيٍّ، بل حِوارٌ مُستمرٌّ بينَ الأَصالةِ والتَّجديدِ، بينَ ما كُنَّا وما نَصبو إليهِ أَن نَكونَ.”
س٢: هلْ تَرى أنَّ التَّصميمَ الغرافيكيَّ في الشَّرقِ الأوسطِ يَملكُ لغةً بصريَّةً مُستقلَّةً، أمْ أنَّهُ يَتبعُ بشكلٍ رئيسيٍّ التَّيّاراتِ العالميَّةِ؟
– “التَّصميمُ الغرافيكيُّ في الشَّرقِ الأوسطِ لا يَسيرُ في ظِلِّ التَّيّاراتِ العالميَّةِ بقدرِ ما يَخوضُ حِوارًا بصريًّا معها. هو يَملكُ خصوصيَّةً نابعةً من إرثٍ بصريٍّ غنيٍّ، تشكَّلَ عبرَ قرونٍ من التَّاريخِ والثَّقافةِ والحِرفِ اليدويَّةِ. لكنَّ هذهِ الخصوصيَّةَ لا تَعني العُزلةَ، بل تُشيرُ إلى هُويَّةٍ تَعرفُ كيفَ تَستوعبُ الحداثةَ دونَ أن تَفقدَ ملامِحَها. نحنُ لا نُقلِّدُ الغربَ، بل نُحاوِرُهُ بلُغتِنا البصريَّةِ الخاصَّةِ، ونُعيدُ تشكيلَ المفاهيمِ العالميَّةِ بما يُناسبُ وجدانَنا الجَمعيَّ وثقافتَنا المتجذِّرةَ في العُمقِ.”
س٣: كيفَ تَبدأُ مشروعَ تَصميمٍ جديدٍ؟ هلْ تَتبعُ مَنهجيَّةً مُحدَّدةً أمْ تَعتَمِدُ على الإِلهامِ اللحظيِّ؟
– “أبدأُ مشروعي التَّصميميَّ غالبًا من لحظةِ إِلهامٍ خاطفةٍ، قد تَنبثقُ من لونٍ عابرٍ، أو ضوءٍ ينكسرُ بطريقةٍ غيرِ مألوفةٍ، أو حتى من صوتٍ أو ذاكرةٍ. لكنَّ هذا الإِلهامَ لا يأتي من فراغٍ، بل هو ثمرةُ تراكمٍ داخليٍّ من التَّأمُّلِ والتَّجربةِ والمعرفةِ. لا أُؤمنُ بالفَصلِ التَّامِّ بين الإِلهامِ والمنهجيَّةِ، فالفنُّ الجيِّدُ يحتاجُ إلى جناحين: الأَوَّلُ هو ومضةُ الشُّعورِ، والثَّاني هو انضباطُ الفِكرِ. وحينَ يكونُ المُصمِّمُ غنيًّا بأفكارِ الابتكارِ والجودةِ ومُواكبةِ التَّطوُّراتِ، فإنَّهُ يُحسِنُ تحويلَ الإِلهامِ اللحظيِّ إلى رؤيةٍ بصريَّةٍ مُتكاملةٍ، تَنبضُ بالحياةِ وتُخاطبُ العينَ والعقلَ معًا.”
س٤: ما هيَ أكبرُ التَّحدِّياتِ التي تُواجِهُها في تَحويلِ فكرةٍ مُجرَّدةٍ إلى تَصميمٍ مَلموسٍ وجذّابٍ؟
“أكبرُ التَّحدياتِ بالنِّسبةِ لي تكمنُ في جَعلِ الفِكرةِ المُجرَّدةِ تنبضُ بالحياةِ دونَ أن تَفقدَ دهشتَها الأولى. فالتَّصميمُ الحقيقيُّ ليسَ مجرَّدَ ترجمةٍ بصريَّةٍ لفكرةٍ ما، بل هو فعلُ خَلقٍ يُحوِّلُ الغموضَ إلى وضوحٍ، ويَمنحُ المَعنى شكلاً يُلامِسُ الحواسَّ والعقلَ في آنٍ معًا. أن تَصنعَ تصميمًا مُبتكَرًا وحديثًا، لا يُكرِّرُ ما قيلَ من قبلُ، هو أن تَسيرَ على حبلٍ دقيقٍ بينَ الجاذبيَّةِ البصريَّةِ والعمقِ المفاهيميِّ. أُحاوِلُ دائمًا أن أُحمِّلَ تصاميمي شيئًا من الحُلمِ، وأن أُوصلَها إلى المُتلقِّي مَفعمةً بالحيويَّةِ، تُثيرُ فضولَهُ، وتدعوهُ للتَّأمُّلِ، لا لمجرَّدِ النَّظرِ فقط.”
س٥: في زَمنٍ تَكثُرُ فيهِ الوَسائلُ الرَّقميَّةُ السَّريعةُ، كيفَ تُحافِظُ على عُمقِ ومَعنى التَّصميمِ في وَسطِ الكَمِّ الهائلِ منَ الصُّوَرِ؟
– “في عصرٍ باتَتِ الصُّوَرُ تَتناسلُ بسرعةٍ خاطفةٍ، ويُهدِّدُ الضَّجيجُ البصريُّ بقَضمِ المعنى، أَجدُ أنَّ التَّصميمَ العَميقَ هو ذاكَ الذي يَستطيعُ التَّمايُزَ لا بالصَّراخِ، بل بالصَّمتِ المَحمولِ على دِقَّةِ الفِكرةِ وجَمالِ التَّكوينِ. أُؤمنُ أنَّ التَّنوُّعَ والاختلافَ في مَحتوى التَّصميمِ لا يُعبِّرانِ فقطْ عن تَميُّزِ المُصمِّمِ، بل يُؤكِّدانِ على حِرصِه على إِعادةِ بناءِ المعنى وسطَ زِحامِ الإِشاراتِ. في زمنِ السُّرعةِ، أَستلهمُ من البُطءِ، وفي ضَجيجِ الألوانِ أَبحثُ عن نَغمةٍ خاصَّةٍ، تُعطي للتَّصميمِ روحًا، لا مجرَّدَ صورةٍ عابِرةٍ.”
س٦: ما هيَ طُموحاتُكَ المهنيَّةُ في السَّنواتِ القادمةِ؟ هلْ تُفكِّرُ في التَّوسُّعِ في مَجالاتِ تَصميمٍ أُخرى أو التَّعاونِ معَ فَنَّانينَ من مَجالاتٍ مُختلفةٍ؟
– “أَطمحُ إلى أن تَعبُرَ تَصاميمي حدودَ المكانِ والثَّقافةِ، وأن تَصلَ إلى العالَمِ لا بوصفِها مُنتَجًا بصريًّا فَحسب، بل كرسالةٍ تعبيريَّةٍ تنتمي إلى الإنسانِ أينما كان. التَّوسُّعُ بالنِّسبةِ لي لا يَقتصرُ على تَعدُّدِ المَجالاتِ، بل يَكمُنُ في تَوسيعِ الأُفُقِ الإِبداعيِّ عبرَ التَّفاعُلِ مع فَنَّانينَ ومُبدعينَ من تخصُّصاتٍ مُتعدِّدةٍ. أُؤمنُ أنَّ الجُدرانَ التي تَفصلُ بينَ الفُنونِ، يمكنُ لها أن تَذوبَ حينَ نَلتقي على أرضيَّةِ الرُّؤيةِ المُشتركةِ، وهناكَ يولدُ الإِبداعُ الحقيقيُّ، حيثُ تُخصبُ الفكرةُ بالفكرةِ، ويَكتسبُ التَّصميمُ أبعادًا جديدةً تُثريه وتُحرِّره من نَمطِيَّته.”







































