بقلم : سلمى صوفاناتي
تَحتَ سَماءٍ تَتَنفَّسُ أسرارًا، وتَتَأمَّلُ الأرْضُ مَسيرَةَ إنسانٍ حَوَى الحَياةَ بَيْنَ أنْفاسِ الفَنِّ وَدَبيبِ الواقِعِ، يَقِفُ عبّاسُ الحاوي كَشَجَرَةٍ ضارِبَةٍ في أعْماقِ الزَّمَنِ، جُذورُها مِن صَبْرٍ، وأغْصانُها مِن أمَلٍ، وَثِمارُها مِن إرْثٍ لا يَتَبَدَّدُ.
لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ وَجْهٍ يَمُرُّ على الشّاشَةِ أو صَوْتٍ يَتَرَدَّدُ في الأثيرِ، بَلْ كانَ “ظاهِرَةً إنْسانيَّةً” تَبحَثُ عنِ الجَمالِ في قَسْوَةِ العالَمِ، وَتَصْنَعُ مِنَ الدِّراما مَرْثِيَّةً لِلوُجودِ، وَمِنَ الإذاعَةِ حِكمَةً تَتَخَطّى الأزْمِنَةَ.
في “الطَّيرِ” وَ”الخاطِئُونَ”، لَمْ يُؤدِّ أدوارًا، بَلْ أَقامَ شَراكَةً صادِقَةً مَعَ الشَّخْصِيّاتِ، فَمَنَحَها روحَهُ، واسْتَعارَ مِنْها جِراحَها، حَتّى باتَ الفاصِلُ بَيْنَ المُمَثِّلِ وَالبُطولَةِ مُجَرَّدَ حِبْرٍ على وَرَقٍ.
وفي أروِقَةِ الإذاعَةِ السُّوريَّةِ، تَرَنَّمَتْ كَلِماتُ “حُكْمِ العَداَلَةِ” بِصَوْتِهِ، حَيْثُ جَسَّدَ شَخْصِيَّةَ المُقَدَّمِ رَئيف، لِيَخُطَّ في ذاكِرَةِ المُسْتَمِعينَ سُطُورًا مِنَ الوَفاءِ الفَنّيِّ وَالرِّسالَةِ الاجْتِماعِيَّةِ.
وَتَتَجاوَزُ أعْمالُهُ الفَنِّيَّةُ المِئَةَ عَمَلٍ، لِيُصْبِحَ شَخْصِيَّةً اسْتِثْنائيَّةً مُتَعَدِّدَةَ الأَبْعادِ، تُبْدِعُ هُنا وَتُبْدِعُ هُناكَ، في التَّمْثِيلِ وَالرَّقْصِ وَالعَمَلِ الإخْراجِيِّ، إِضافَةً إِلى حُصُولِهِ على العَديدِ مِنَ الجَوائِزِ الدُّوَلِيَّةِ.
أمّا في عالَمِ التِّجارَةِ، حَيْثُ تُقاسُ الحَياةُ بِجَفافِ الأَرْقامِ، اخْتارَ أنْ يَكونَ شاعِرًا في سوقِ المادِّيّاتِ، يَحْمِلُ حَقيبَتَهُ حُلْمًا قَديمًا، وَيَمْشي بَيْنَ الدُّوَلِ كَتاجِرٍ يَعْرِفُ أنَّ الرِّبْحَ الحَقيقِيَّ هُوَ كَرامَةُ العَيْشِ، لا تَرَفَ الثَّراءِ.
لَقَدْ صَنَعَ مِنَ الغُرْبَةِ مِساحَةً لِيَرْويَ أَبْناءَهُ الثَّلاثَةَ: وِسام، حُسّام، وإيبْلا، لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الجُذورَ لا تُقْتَلَعُ، بَلْ تُزْرَعُ مِنْ جَديدٍ حَيْثُما حَلَّ المُؤْمِنُ بِالحَياةِ.
هُنا، حَيْثُ يَلْتَقي الفَنُّ بِالواقِعِ، وَالذِّكْرَياتُ بِالمُسْتَقْبَلِ، نَفْتَحُ نَوافِذَ الحِوارِ على روحٍ لَمْ تُحاصَرْها الأَدْوارُ، وَلَمْ تُقْهَرْ بِالظُّروفِ.
روحٌ تَعْرِفُ أنَّ الفَنَّ “لَيْسَ مِهْنَةً، بَلْ مَصِيرًا”، وَأنَّ العائِلَةَ لَيْسَتْ مَلاذًا، بَلْ قَصِيدَةً تُكْتَبُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ.
فَلْنَجْلِسْ إِلى عبّاسِ الحاوي، لَيْسَ لِنَسْتَعِيدَ الماضي، بَلْ لِنَفْهَمَ:
كَيْفَ يُخَلَّدُ الإِنْسانُ في ذاكِرَةِ الوُجودِ، وهُوَ بَيْنَ رِياحِ التَّغْييرِ، يُمْسِكُ بِمِطْرَقَةِ الفَنّانِ، وَإِزْميلِ الحَكيمِ؟
س١:
فِي رِحْلَتِكَ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَ الرِّيَاضَةِ وَالفَنِّ، كَيْفَ تَرَى العَلَاقَةَ بَيْنَ قُوَّةِ الجَسَدِ وَقُوَّةِ الرُّوحِ؟
– قُوَّةُ الجَسَدِ تُعْطِي الإِنْسَانَ القُدْرَةَ عَلَى مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ، لَكِنَّهَا بِلَا عُمْقٍ، كَالجَسَدِ بِلَا رُوحٍ. الرُّوحُ تُشَكِّلُ الجَسَدَ الحَيَّ. الرِّيَاضَةُ عَلَّمَتْنِي الإِنْضِبَاطَ وَالتَّحَمُّلَ، خَاصَّةً بَعْدَ حُصُولِي عَلَى مِيدَالِيَّةِ أَسْرَعِ سَبَّاحٍ فِي إِحْدَى البُطُولَاتِ. أَمَّا الفَنُّ، فَهُوَ نُقْطَةُ التَّعْبِيرِ الصَّادِقِ عَنِ الذَّاتِ وَالوِجْدَانِ، وَالإِنْسِجَامُ بَيْنَهُمَا هُوَ مَا يَجْعَلُ الإِنْسَانَ كَامِلًا.
س٢:
مَا هُوَ الدَّرْسُ الأَكْبَرُ الَّذِي تَعَلَّمْتَهُ مِنْ تَجْرِبَتِكَ فِي الجَمْعِ بَيْنَ الرِّيَاضَةِ، وَالفَنِّ، وَالتِّجَارَةِ؟
– الدَّرْسُ الأَكْبَرُ هُوَ أَنَّ الحَيَاةَ لَيْسَتْ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، بَلْ بَحْرٌ مُتَلَاطِمُ الأَمْوَاجِ. النَّجَاحُ يَكْمُنُ فِي التَّكَيُّفِ مَعَ التَّيَّارَاتِ المُخْتَلِفَةِ، وَأَنْ نَكُونَ مَرِنِينَ فِي مُوَاجَهَةِ الظُّرُوفِ، مَعَ الحِفَاظِ عَلَى جَوْهَرِنَا وَقِيَمِنَا.
س٣:
مَا الدَّوْرُ الَّذِي لَعِبَتْهُ عَائِلَتُكَ فِي مُسَانَدَتِكَ؟ وَكَيْفَ تَرَى مُسْتَقْبَلَ أَبْنَائِكَ فِي الغُرْبَةِ؟
– العَائِلَةُ هِيَ الجَذْرُ وَالأَسَاسُ. دَعْمُهُمْ كَانَ القُوَّةَ الَّتِي تَدْفَعُنِي لِلاِسْتِمْرَارِ. أَبْنَائِي أَتَمُّوا دِرَاسَتَهُمُ الجَامِعِيَّةَ بِتَفَوُّقٍ، وَيَعِيشُونَ فِي الغُرْبَةِ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً وَكَرِيمَةً، وَهَذَا مَا يَمْلَأُ قَلْبِي فَخْرًا وَأَمَلًا فِي مُسْتَقْبَلٍ أَفْضَلَ.
س٤:
فِي عَالَمٍ سَرِيعِ التَّغَيُّرَاتِ، كَيْفَ تَرَى دَوْرَ الفَنَّانِ فِي المُجْتَمَعِ اليَوْمَ؟
– الفَنَّانُ هُوَ المِرْآةُ الَّتِي تَعْكِسُ وَاقِعَ المُجْتَمَعِ وَأَحْلَامَهُ. عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَوْتَ الضَّمِيرِ، وَأَنْ يَفْتَحَ نَافِذَةَ أَمَلٍ وَسَطَ الظَّلَامِ. الفَنُّ اليَوْمَ يَجِبُ أَنْ يُوَاكِبَ التَّغْيِيرَ وَيُلْهِمَ النَّاسَ، لَيْسَ فَقَطْ لِيَرْوِيَ قِصَصًا، بَلْ لِيُحَفِّزَ عَلَى التَّفْكِيرِ وَالعَمَلِ.
س٥:
خِتَامًا: مَا هِيَ رِسَالَتُكَ لِلشَّبَابِ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ لِتَحْقِيقِ تَوَازُنٍ بَيْنَ شَغَفِهِمْ وَحَيَاتِهِمُ العَمَلِيَّةِ؟
– أَقُولُ لَهُمْ: لَا تَخَافُوا مِنَ التَّنَوُّعِ، وَلَا تَسْتَسْلِمُوا لِضَغْطِ المُجْتَمَعِ أَوِ الظُّرُوفِ. اِبْحَثُوا عَنْ تَوَازُنِكُمْ، وَأَعْطُوا كُلَّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاتِكُمْ حَقَّهُ. فَالشَّغَفُ هُوَ المُحَرِّكُ، وَالعَمَلُ الجَادُّ هُوَ الرَّكِيزَةُ. وَلَا تَنْسَوْا أَنْ تَسْتَمْتِعُوا بِالرِّحْلَةِ نَفْسِهَا.






































