عصر ما بعد التّفاهة …
مقال بقلم: طارق حنفي – مفكّر وأديب مصري
———–
بعد أن ألقوا بنا في مستنقع الفوضى، جاء على ألسنتهم أنّها فوضى خلّاقة.
لكن، كيف؟ ولماذا؟ ما علاقة الفوضى بالتّفاهة؟ وهل انتهت
الأمور عند هذا الحدّ؟
لقد اتّضح لنا فيما بعد -بما لا يقبل الشّكّ- أنّها ليست مجرّد فوضى عشوائيّة؛ فهي تسير وفق مناهج وخطط تنبثق عنها عشرات الأحداث والمواقف الجديدة، إجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة ودينيّة، والّتي من شأنها أن تفرز العديد من التّساؤلات والمشكلات والتّحدّيات الجديدة؛ تخلق أنواعًا مُستحدثة من الأعباء تُضاف إلى أعباء متصدريّ المشاهد، وتفرز تحدّيات تفوق إمكانياتهم؛ فهي تتطلّب إجابات ورؤى جديدة تُعجزهم؛ فهم كواهل مثقلين بأعباء والتزامات لم يجدوا سبل الرّاحة منها بعد.
ورويدًا، نكتشف أنّها ليست -فقط- عشوائيّة بل هي فوضى خلّاقة (لها أهداف محدّدة) صنعتها عقول شياطين تهدف -في المقام الأوّل- إلى جعلنا نفرّ من المواجهة..
تلك المواجهة الّتي بدأت بالصّراخ: أصوات نقاشات حادّة تتعالى من هنا وهناك توصّف المشكلات دون طرح الحلول، وأصوات أخرى تنتقد وتُخطئُ الأفعال دون إعطاء الصّواب، أصوات تحذّر من النّار دون التّعريف بالطّريق إلى الجنّة..
أعقب الصّراخ نُباحا: حلول نظريّة منقوصة لا تثمن ولا تغني من جوع..
ثم بدأت الأصوات في الخفوت ليبدأ ردّ فعل عكسيّ، لقد ولّينا المشاكل ظهورنا فررنا من المواجهة، سياسيّاً واجتماعيًّا، دينيّا وثقافيًّا..
ليلجأ المجتمع بعدها إلى الأمور البسيطة الظّريفة، تسيير الحياة دون عناء التّفكير وخوض الصّراعات، لقد مهّدتِ الفوضى الخلّاقة لأن يسود عصر التّفاهة، حيث تسيطر التّفاهات على المشهد العام، سواء الإعلامي أو الثّقافي أو الاجتماعي
لكنّ الأمر لم ينته عند ذلك الحدّ، فتلك العقول الشّيطانيّة لم تكن لتهدأ، لقد بدأت -مبكرًا- في طرح حلول بديلة، فبالتّوازي كانت هناك أصوات أخرى تتوارى في الظّلام، تعبث وتهمس؛ تحاول خلق أنواع من الصّراعات النّفسيّة والمجتمعيّة..
ظهر في وسائل الإعلام، أنواع من الأغاني غريبة، برامج منوّعات رخيصة وكلام عقيم، ظهر البعض ممّن يعرفون أنفسهم على أنّهم رجال دين يخوضون في ثوابت الدّين.
“حتّى وإن تغيّر شكل الحروب ولم تعد تُدار بالسّيف ولا البنادق، وإن تعدَّدت الوسائل تبقى الغاية واحدة، محاولة تنشئة الشّعوب على أفكار معيّنة يستقونها عبر وسائل عديدة، مثل توجيه الإعلام المرئيّ والمسموع عبر الأفلام والأغاني ليخدم أفكار محدّدة، تبثّ باستمرار بصورة معيّنة، وتصعيد رموز من صنعهم تمثّل القدوة للنشأ ليشبّوا عليها وعلى طريقتهم في الحياة، وتيسير وسائل التّغييب الذّهني المتمثّلة في المخدّرات وما شابهها والّتي يظهر كلّ يوم منها الجديد، وتيسير سبل المعصية” [من روايتي ميدان التّحرير-دنفر]
لقد اتضح أن التفاهة بدورها وُجدت لتخدم أغراضًا أخرى، فهي -أبدًا- لم تكن تفاهة في عقول صانعيها بل تفاهة موجهة، لقد هدمت الثوابت وأنستنا الفطرة السليمة، ووضعت أساسات أفكار ومعتقدات مغايرة على أمل أن تتطاول في البنيان بداخلنا..
أفكار مهدت إلى الشعور بعدم الانتماء للأسر والأوطان، إلى الشعور بعدم الحاجة للأديان، إلى محو الخط الفاصل بين الصواب والخطأ، الخير والشر، كقبول الكيان الصهيو-ني -على سبيل المثال- حبيب لا عدو، واستثقال العبادات والطاعات، وقبول تجميع الأديان السماوية (الإبراهيمية) في دين واحد.
“إنَّ النفس البشرية هي نتاج الجمع بين الروح والجسد، ومن ثم فهي تتأثر بهما، وبترويجهم لأفكار محددة ونماذج معينة وبالاستمرار في عرضها يغيبون تأثير صفاء الروح على تلك النفس، وبالمخدرات يغيبون تأثير العقل، وبالتدريج يشب النشأ على أفكار وأخلاق من اختيارهم، ومن ثم تصبح هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية.
ثم تبدأ في توجيه النفس لتميل إلى أشياء محددة بعيدة عن الفطرة السليمة، وفي مرحلة الصراع الناتجة يستخدم أناس بعينهم ليحسموا ذلك الصراع لصالح ما توده النفس تحديدًا” [من روايتي ميدان التحرير-دنفر]
لقد ظهرت ملامح العصر الجديد، عصر ما بعد التفاهة أو التفاهة الخلاقة، إنه عصر الفطرة الموازية أو الفطرة البديلة.
سألته مرة أخرى: “ماذا عن الكتاب الآخر، ذلك الذي سيتحول إلى فيلم سينمائي؟” لم يجبني على الفور، فقلت: “عن الحلم بجمع الأديان السماوية بطوائفها في دين واحد هو الدين الإبراهيمي، أليس كذلك؟”، شرد ببصره وهو يقول: “نعم، شرق أوسطيه في إطار ديانة أخوية”. [من روايتي ميدان التحرير-دنفر]






































