بقلم الشّاعر … عبد الناصر العبيدي
المقامة الطنبوريّة …
————–
حدّثنا أبو الفتحِ النيسابوريّ عن أبي القاسمِ الطَّنبوريِّ، وكان شيخاً عجيباً لبيباً، وبليغاً أديباً أريباً، يصلحُ أن يكونَ لكلِّ ذي سقمٍ طبيباً، قال:
سُئلتُ يوماً في مجلسٍ من مجالسِ الأخيار، فقالوا: يا أبا القاسم، قد علمنا أنّك رجلٌ من أهلِ الأسفارْ، جُبتَ الأمصارْ، وخالطتَ الشّيوخَ وكبارَ التّجّارْ، وجلستَ إلى الأمراءِ والوزراءِ وأربابِ القرارْ، فحدّثنا عن أعجبِ ما رأيتَ في أعوامِكْ، وأطرفِ ما مرّ بك في أيّامِكْ.
قال: نعم، سأُحدّثُكم عن حادثتَين، فيهما من العِظةِ والعِبَرْ ما يصلحُ عبرَ الزّمانِ والدّهرْ، لمن يريد أن يستفيدَ من الأخبارِ والسِّيَرْ.
إحداهما بمدينةِ السّراب في دولةِ القمع والإرهابْ، في عهدِ الملكِ الضليلِ هابيلَ بنِ شَرْشابيل، وسأبدأ من غيرِ مقدماتٍ وشرحٍ طويلْ:
حدثَت ثورةٌ في إحدى البلدان، إذ كتب بعضُ الصّبيانِ عباراتٍ على الحوائطِ والجدران، فجنّ جنونُ جماعةِ هابيل، وطاش عقلُهم كأصحابِ الفيل، فجمع قائدُ الشّرطةِ الأولادْ، وقال: سأُربِّي بهم جميعَ البلادْ، وأجعلُهم عِبرةً لكلِّ المتمرّدين من العبادْ.
فقلع الأظفار، وحرّق الأماكنَ الحسّاسةَ في الأجسادْ، فحزن النّاس، وتمزّقتِ الأكبادْ، وقالوا: إلى متى سنقبل بهذا الظّلمَ والفسادْ؟
أما هابيل “العُكْروتْ”، فجمع جميعَ جلاوزتهِ ورجالَ الكهَنُوتْ، باحثاً عن حلٍّ لكي يستمرَّ الجبروت والطّغيانْ ، ويتناسى النّاسُ الأمرَ وكأنّه ما كانْ.
الكاهنُ طنّوسْ بنُ قادوسْ، صاحبُ الشّرفِ والنّاموسْ، قال: يجب أن تكونَ هناك حربٌ ضروسْ، على كلّ متمرّدٍ بالحرّيًةِ مهووسْ، وطاعةُ الرّئيسِ واجبةٌ على المَرؤوسْ، وهو بعنايةِ الربِّ محروسْ، وعلينا أن نتخلّصَ من كلِّ ثائرٍ مدسوسْ، وقد اتّفق على بقاء زعيمنا الأمريكانُ والرّوسْ، ويدعمه اليهودُ والمجوسْ، ونُشجِّع على أن نجعلَ كيد الثّائرين مدحورْ، وكبيرهم وصغيرُهم تحت أنقاضِ بيتِه مطمورْ، وسأباركُ الطّائراتِ الّتي تقصفُهم بالبخورِ والكافورْ، وأهتفُ للمدافعِ والرّصاصْ، وأكتبُ على القذائفِ آياتٍ من سفرِ الخلاصْ.
وأما الكاهنُ الثاني، عَتريسْ شريكُ إبليسْ، فقال: لا يمكنُ أن تقومَ دولةٌ من غيرِ سيادةِ الرّئيسْ، هذا الرّجلُ ما رأيتُ مثلَه قدِّيسْ، حتّى لو اتّفق جميع النّاس على أنه خسيسْ، هو النّاطقُ بالحكمةِ في كلِّ همسةْ، والذي تحلُّ علينا بركاتُه في كلِّ لمسةْ، وهو الّذي ثبّت أركانَ الدّنيا، واخترعَ الأبعادَ الخمسةْ، وفتحَ الأبوابَ المُغلَقةْ، وأطفأ نارَ الفتنةِ المستعِرةَ المُحرقةْ، وجعلَ من الظّلمةِ سُرُجاً، ومن الكذبِ موعظةً وهرجاً. ولم ير في ذلك حرجا.
وأمّا الكاهنُ الثّالث، ثعلوبْ بنُ مكلوبْ، فقال: كيفَ نتخلّى عن زعيمٍ من شعبِه محبوبْ؟
وقد ملكَ بمحبّتِه سويداءَ القلوبْ!
فليخسأ من تجرّأ على مقامِه المرهوبْ،
لقد ضعفَ الطّالبُ، وعزَّ المطلوبْ.
ولنجعلَنّهم بين خيارَين اثنَين: إمّا سجينٌ، أو على جذعِ النّخلِ مصلوبْ.
كيف يتطاولون على نبيٍّ مُرسَلْ، وعلى الحقِّ ثابت لا يتحوّلْ، ومن يُطالبُ بخلعهِ، حتماً هو أعورُ أو أحولْ.
هو نعمةٌ منَّ بها اللهُ على المؤمنين، ولا نسمحُ أن يصبح مهزلة على أيدي الخونة والمنحرِفين، وإنّا على خطاه سائرون إلى يومِ الدّين.
وأمّا جمهورُ الحميرِ والكلاب، فَعَلا لديهم النّهيقُ والنّباحْ، وقالوا: إنّ قتلَ المتآمرين مباحْ، وعرضُهم مستباحْ، وسنبيدُهم قبلَ أن تشرقَ عليهم شمسُ الصّباحْ، ونُفرغَ عليهم جامَ الانتقامِ والسّلاحْ.
فأغلقوا أمامَ الحُلولِ الأبوابْ، ونشروا في البلادِ الدّمارَ والخرابْ،
فأصبحت خاويةً على عروشِها من غيرِ ساكنين، وهم حولَها يطوفون كالشّياطين، يتباكون جائعين، وكأنّ الله عاقبهم على مافعلوه بالمساكين، فدارت عليهم دائرةُ السّوء، وارتدّ كيدُهم في نحورِهم، وانقلبت أفراحُهم نياحْ. وذهبت كلّ جهودهم أدراج الرّياحْ ،وبات سقف أمانيهم أن يجلس الفرد في بيته مرتاحْ
وأما الثّانية، فكانت في دولةِ الفروخ، في عهدِ الملكِ نَخنوخ بنِ أُخنوخ، الّذي أراد توطيدَ حكمِه بالتّملّقِ وتمسيحِ الجوخْ، ومعاملةَ اللصوصِ كأنّهم أسيادُ بني تنوخْ،
ظَنًّا أَنَّ النَّفَايَاتِ تَصْلُحُ لِلتَّدْوِيرْ.، متوهّماً أنّه يبني للمودّةِ الجسورْ، ويُطفئُ حقدَهم المستعرَ في الصّدورْ، وهو يغلي كما تغلي قدور الطّبيخْ،
عازفاً على نايٍ مَشروخْ، متغافلاً أنّ الجراثيمَ لا تموتُ إلّا بالمطهّرِ والزّرنيخْ.
علِمَ أو لم يعلمْ أنّهم قد اشتهروا بالانبطاحِ والرّضوخْ،
وكبيرُهم كان يقفُ أمام الزّعيمِ القديم العظيمِ متجمّداً كالظّليمِ المَصلوخْ، مشيداً بإنجازاتِه الفريدةْ، ومُضخّماً لعطايَاه الزهيدةْ،
ومنبهِراً بشخصيّتِه التافهةِ البليدةْ،
يتغزّلُ بكلامِه كما تتغزّلُ العذارى بنجمةٍ بعيدةْ،
ويصفُه بأنّه المهديُّ الموعودْ، والبلسمُ المشهودْ،
والوليُّ الّذي من لُطفِه تُثمر أعوادُ القتادِ ورودا، وتُغنّي الصّخورُ نشيدا.
فما زادهم تسامحُه معهم إلّا تجبّراً وغطرسةْ، فأخذوا يُلقون عليه الخُطبَ والمواعظ، وكأنّه تلميذٌ عندهم في المدرسةْ،
جاء ليتعلم من الأغبياء الجبر الهندسةْ،
فسبّبوا لواليه الهواجسَ والهَلْوَسَةْ،
وسلّطوا عليه القوارضَ والذّبابْ، وعضّته في عقرِ دارِه الكلابْ، ولم يجدْ في عونِهم إلّا المصاب تلو المصابْ، ففرّ من المدينةِ خائفاً كفرارِ القملةْ، وتحوّلَ الفيلُ العظيمُ لنملةْ، ووصلَ إلى الملكِ يشكو قلّة الحيلةْ وانعدام الوسيلةْ
فظنَّ النّاسُ أنّه سيأتي بالمددْ ولن ينجو من عقابه أحدْ، وأنّه سيعالج كلَّ علّةْ، ويجعلُهم عبرةً لكلّ ملّةْ ،
لكن تفاجؤوا بعد فترة عاد لهم بالمال والهدايا، والإعتذار من جميع الشّباب والصبايا، ويقبل رأس هامانْ ويقول سامحني ياسيدي أنا ندمانْ, فشجع بفعلته جميع الأرانب والضباعْ, وأصبح مسخرة في القرى والضياعْ,
وهكذا، يا كرام المجالس و يا فطاحل المحافل، كانت حكايتي درسًا من دروس الزمان،
ونقشًا في ألواح العبر لكل عاقل فهمان.
ففي الأولى رأينا كيف يُبرّر الطغيانُ بالدين، ويُمسَحُ الجرحُ با






































