المراهقة والشّباب في مرمى “سكرات الموت”: قراءة سوسيولوجيّة وفلسفيّة لحرب المخدّرات في الاحياء الشّعبيّة
بقلم بوخالفة كريم- سوسيولوجي جزائري
مقدمة
في زوايا المدن الخلفيّة وأرصفة الأحياء الشّعبية، تختبئ حرب قذرة لا يُرفع فيها السّلاح ولا تُسمع فيها طبول المواجهة، ولكنّها تحصد الأرواح في صمت: إنّها حرب المخدّرات، حرب تستهدف الإنسان في بداياته، حين يكون هشًّا، غارقًا في أسئلته الوجوديّة، في مرحلة المراهقة والشّباب في الجزائر، لم تعد هذه الحرب ظاهرة هامشيّة، بل أصبحت نسقًا ثقافيًّا، واجتماعيًّا، ونفسيًّا يتسلّل إلى كلّ البيوت، ويصيب بنية المجتمع في عمقها. ويبرز “سكرات الموت” كنوع جديد من المخدّرات القاتلة الّتي تحوّل الشّباب إلى أشباح تتجوّل بين الحياة والموت. فما الّذي يجعل المراهق الجزائري عرضة لهذه الحرب؟ ما هي الجذور السّوسيولوجية والثّقافيّة للظاهرة؟ وكيف نفهمها ضمن الإطار الفلسفيّ الوجودي لانكسار المعنى والضّياع؟
1/ المراهقة في الجزائر: هشاشة الهويّة وتصدّع الانتماء.
المراهقة ليست مجرّد مرحلة عمريّة، بل هي مخاض نفسي واجتماعي وفكري يضع الفرد أمام أسئلة كبرى: من أنا؟ إلى أين أنتمي؟ ما معنى أن أكون؟ في السّياق الجزائري، تتضخّم هذه الأسئلة بسبب انعدام فضاءات التّعبير، وغياب منظومات التّوجيه الثّقافي والفكري، وهيمنة التّناقضات القيمية بين الموروث التقليدي والعصر الرّقمي المعولم. يجد المراهق نفسه في فراغ مؤسسيّ وأسري وثقافي، حيث تتراجع المدرسة كفاعل تربوي، وتنهار رمزيّة الأسرة كحاضنة معنويّة، ويغيب المثال الأعلى في فضاء يملأه التّهريج، والسّطحيّة، وثقافة “الترند”. هذه الهشاشة البنيويّة تشكّل التّربة الخصبة لتسلّل المخدّرات كوسيلة للهروب من الواقع وتخدير الأسئلة.
2 /مخدر يسمى سكرات الموت”: رمز لفقدان المعنى واحتضار الحلم.
المخدّرات ليست مجرّد مادة كيميائيّة، بل هي خطاب رمزيّ عن اليأس، والاحتجاج، والفراغ الوجودي. “سكرات الموت” – هذا الاسم ليس اعتباطيًّا – إنه يحمل في طيّاته تجربة الموت داخل الحياة، رغبة دفينة في الانسحاب من واقع لم يعد قابلًا للعيش. الشّباب الّذين يتعاطونه لا يفعلون ذلك دائمًا بدافع التّرف أو المغامرة، بل غالبًا ما يكون بدافع فقدان الأمل، غياب الأفق، وشعور داخليّ بأنّ الحياة فقدت معناها. سوسيولوجيًّا، يصبح تعاطي المخدّرات نوعًا من السّلوك الانتحاري البطيء، احتجاج صامت على وضع اجتماعي غير عادل، ومؤسّسات عاجزة عن الفهم أو الاستجابة.
3/ المخدرات كآليّة تفكيك للرأسمال البشري ّوالاجتماعي.
تشكّل المخدّرات في الجزائر جزءًا من منظومة أوسع تعمل على تفكيك بنية المجتمع من الداخل. فكل شاب مدمن هو رأسمال بشري تمّ إحباطه، وتحييده، وتحويله من طاقة منتجة إلى كائن معطوب. في مجتمع يعاني من بطالة، ورداءة تعليم، وغياب سياسات ثقافيّة جادّة، تصبح المخدّرات جزءًا من دورة الإقصاء والتّهميش. والأخطر أن انتشارها يتمّ أحيانًا برعاية شبكات محلّيّة وعابرة للحدود، في تواطؤ مريب بين الفقر والتّجارة، وبين الدّولة الغائبة وشبكات التّهريب الحاضرة.
4/ فلسفة الهروب: عنف الوجود في ظلّ غياب المعنى.
فلسفيًّا، يمكن فهم تعاطي المخدّرات كشكل من أشكال الهروب من عبثيّة الواقع. عند قراءة شبابيّة متأثّرة بتجارب العدميّة، والانفصال عن القيم العليا، يصبح الانغماس في المخدّرات محاولة لخلق عالم بديل، ولو كان وهميًّا. في ظلّ انعدام الحلم الجمعي، يصبح الهروب شكلًا من أشكال التّمرّد على العدم، لكنّه تمرّد مدمر. شباب يهربون من الحقيقة لأنّ الحقيقة قاسية، يهربون من الواقع لأنّ الواقع ملوّث، يهربون من أنفسهم لأنّهم لا يجدون فيها شيئًا يستحقّ الحياة.
5/الحاجة إلى مشروع حضاري يعيد الاعتبار للشباب.
الحلّ لا يكمن فقط في تشديد الرّقابة الأمنيّة، بل في بناء مشروع مجتمعي يعيد المعنى للحياة. مشروع يعترف بالشّباب لا كمشكلة بل كحلّ، لا كمصدر تهديد بل كفرصة. المطلوب هو سياسة تربويّة وثقافيّة جذريّة، تعيد الاعتبار لقيم العمل، والكرامة، والمعنى. المطلوب هو إعلام بديل، وفنّ بديل، ومدرسة تحرّر العقل بدل أن تسجنه. المطلوب هو استعادة الحلم، لا قمع الانحراف فقط.
خاتمة: بين الموت البطيء واليقظة الممكنة.
إن “سكرات الموت” ليست مجرّد مخدّر، بل هي علامة على أزمة هويّة وطنيّة، وشروخ اجتماعيّة عميقة، وتفكّك في معنى أن تكون شابًا في الجزائر. هي تجلٍّ لحرب ناعمة تُخاض في الأجساد والعقول، وتستهدف جوهر الأمّة. لكن هذه الحرب لا تُربح بالوعيد، بل بالبديل. البديل الثّقافي، والتّربوي، والفكري، والرّوحي. شباب الجزائر لا يحتاجون إلى خطاب أخلاقي عنيف، بل إلى من يصدّقهم، يستمع لهم، يرافقهم نحو المعنى. فالحرب ضدّ المخدّرات تبدأ من تحرير الإنسان من موت المعنى، قبل تحريره من الإدمان.
مراجع مقترحة للاستزادة .
1/ Bourdieu, Pierre. La Misère du monde. Seuil, 1993.
2/ Zaki, Anouar,La jeunesse algérienne face au vide identitaire, Revue Sociétés en Transition, 2022.
3/ Giddens, Anthony. Modernity and Self-Identity: Self and Society in the Late Modern Age, Stanford University Press, 1991.
4/Derrida, Jacques, La dissémination. Seuil, 1972.






































