من دمية “لابوبو” إلى كأس “الكركم”: سوسيولوجيا العبث اليومي في المجتمع الجزائري
بقلم بوخالفة كريم باحث في علم الاجتماع – الجزائر
مقدمة:
في ظل التحولات الرقمية والتوترات الثقافية التي يعيشها المجتمع الجزائري، تبرز ظواهر تبدو في ظاهرها تافهة، لكنّها في العمق تحولات سوسيولوجية تعبّر عن اختلال المعنى وتشوّه الذوق الجمعي، وتكشف عن أزمة في تشكيل الذات والعلاقة بالمعرفة. من ترند دمية “لابوبو”، ذات الرأس الكبير والتعابير المشوهة، إلى ظاهرة “كأس الكركم” المضيء، تتجلى ممارسات يومية تحمل معاني عميقة تتراوح بين الهروب الرمزي، وإعادة إنتاج الفراغ، والبحث عن هويات هشّة داخل مسرحية المجتمع الافتراضي.
في ظل التحول الكثيف نحو الواقع الرقمي، باتت منصات التواصل تضم ما يشبه مهرجانًا مستمرًا من الظواهر السريعة التي تحاكي ثقافة الفراغ وتعيد إنتاج المعنى عبر رمزية متهاوية. في الجزائر، ولدى بعض الفئات، ظهرت ظاهرتان ملفتتان: لابوبو، الدمية الصينية التي اجتاحت عالم الكسوة والموضة الرقمية، وترند الكركم في الماءالذي ينتج لونًا ذهبيًا براقًا يُقدم كحادث بصري، أكثر من كدرس طبي أو ثقافي. هاتان الظاهرتان تكشفان عن تحول ثقافي وسوسيولوجي في كيفية إنتاج المعنى، وتظهير الهوية، وتفكيك الأفرجة في الفضاء العام.
في السنوات الأخيرة، أصبحت “الترندات” أكثر من مجرد موجات إلكترونية عابرة؛ لقد تحولت إلى أشكال اجتماعية ذات دلالات عميقة، تعبّر عن مكبوت جماعي، أو تحوّل في أنماط التفكير، أو تعويض ثقافي عن عجز ما. في الجزائر، من “لعبة لابوبو” إلى “ترند الكركم”، ومن صرعات التيك توك إلى طقوس المزاح الثقيل، تتجلى ممارسات متسارعة تؤسس لهوية جديدة هجينة، مرتبكة، وعرضة للتهكم. فما الذي يقوله كل هذا عن المجتمع؟ وكيف يمكن لسوسيولوجيا الفعل اليومي أن تلتقط ما وراء “اللعب” و”الضحك” في هذه الظواهر؟
هذا المقال يهدف إلى تفكيك هاتين الظاهرتين باستعمال مقاربات سوسيولوجية وفلسفية وثقافية، وإبراز ما تعنيه من تحولات في الذائقة، والتمثيل الرمزي، والوظيفة الاجتماعية للترفيه في السياق الجزائري
أولًا: توصيف الظاهرتين:
1. دمية لابوبو – رمزية الغرابة
“لابوبو” هي دمية ظهرت أول مرة في الصين، ضمن موجة “الدمى الغريبة” التي تسوّق في صناديق مغلقة كـ blind box، ما يمنحها طابع المفاجأة. تتميز بشكل ساخر، غير متماثل، طفولي ومخيف في آن. اجتاحت الصور والمنشورات الخاصة بهذه الدمية وسائل التواصل الاجتماعي في الجزائر، لتتحول إلى أيقونة للذوق الغريب.
2. ترند الكركم – الجمال الاصطناعي
انتشر بشكل واسع مقطع قصير يُصبّ فيه الكركم في كأس ماء بإضاءة خلفية، فينتج لون ذهبي متوهج. هذا المشهد الجمالي البسيط سُوّق كلحظة “شفاء ضوئي”، “راحة بصرية”، أو “جمال منزلي”، رغم أنه يخلو من أي معنى علمي أو معرفي.
ثانيًا: المقاربات السوسيولوجية لفهم الظاهرتين
أ. مقاربة بورديو: رأس المال الرمزي والهابيتوس الرقمي
يطرح بيير بورديو مفهوم الهابيتوس” كمنظومة استعدادات ذهنية وبدنية تتكون عبر التجربة الاجتماعية وتوجه سلوك الأفراد دون وعي. في حالة لابوبو والكركم:
يتحول الهابيتوس الرقمي إلى تفاعل تلقائي مع ما هو غريب، مرئي، وقابل للتكرار.
دمية لابوبو تصبح رمزًا لـ “الذوق المنحرف”، أي الذوق الذي يطلب التميز من خلال القبح لا الجمال، وهي سمة من سمات ما بعد الحداثة.
كأس الكركم يصبح شكلاً من أشكال “الاستعراض البصري”، لا يحمل أي معرفة فعلية، لكنه يمنح صاحبه رأس مالًا رمزيًا داخل فضاء الانستغرام والتيك توك.
ب. ال تفاعلية الرمزية لغوفمان ومسرحة الذات
يؤكد إرفينغ غوفمان أن الأفراد يقدمون أنفسهم عبر “عرض اجتماعي” أمام جمهور محدد. كل ترند يصبح مسرحية:
في ترند الكركم، الفرد يصنع “طقسًا ضوئيًا” يقدمه كدليل على التذوق والجمال، رغم أن الفعل سطحي.
في لابوبو، يتم ترويج الدمية بوصفها “صديقة مزيفة”، أو “شخصية مسلية”، رغم أنها تثير النفور، مما يكشف عن انزياح في تمثلات الطفولة والجمال.
#ط ج. الثقافة الجماهيرية والتفاهة (أدورنو وهوركهايمر)
يرى مفكرو مدرسة فرانكفورت أن وسائل الإعلام الجماهيرية تنتج ثقافة سطحية تكرس الاستهلاك وتخدّر الفكر. لابوبو والكركم:
يقدمان نموذجين مثاليين لثقافة “التسلية الرخيصة”، حيث يُنتج المعنى فقط ليُستهلك، لا ليُفهم. يصير الفعل الجمالي منفصلًا عن الوظيفة، ويتحول الاستهلاك إلى طقس اجتماعي لا يطرح أي سؤال نقدي.
ثالثًا: التحليل الثقافي والفلسفي – الجمال، الغرابة، والعبث.
1. جمالية القبح وغواية الغريب.
تُثير لابوبو مشاعر متضادة: هي ليست جميلة، لكنها جذابة. إنها تمثل ما يسميه بودريار “الإغواء بالصورة”؛ القبح كرمز لهوية جديدة متخففة من معايير الذوق الكلاسيكي. إنها تعبير عن رغبة جيل كامل في كسر القواعد، حتى لو كانت قواعد الذوق.
2. الكركم والماء: الطقس البصري والفراغ المعنوي
كأس الكركم لا يقدم شيئًا سوى الضوء، وكأن الفعل الاجتماعي صار لحظة بصرية فقط. يمكن مقارنة هذا بما سماه “غي ديبور” بـ”مجتمع المشهد”، حيث تتحول الحياة إلى سلسلة من الصور، تُفقد فيها العلاقة بين الظاهر والواقع.
3. الفعل الاجتماعي كتقليد دون وعي!
المقلدون لترندات لابوبو والكركم لا يعرفون أصل الظاهرة، بل يقومون بتكرارها لغاية واحدة: أن يُشاهَدوا. هنا يتجلى الفعل الاجتماعي الحديث بوصفه لا يقوم على العقلانية، ولا حتى الطقس الجماعي، بل على رغبة فردانية في الانكشاف المؤقت داخل الجمهور الرقمي.
رابعًا: التأثيرات الاجتماعية والسيكولوجية!
إنتاج المعنى خارج المؤسسات: هذه الظواهر تشير إلى تراجع أدوار المدرسة، الأسرة، والمؤسسات الدينية في إنتاج الذوق والرمزية.
تطبيع التفاهة: صارت السخرية، التقليد الأعمى، والجمال المصنع معايير للنجاح الرمزي في المجتمع الافتراضي.
تشويه الطفولة والهوية: من خلال دمية مشوهة (لابوبو) يُعاد تعريف البراءة، ومن خلال كأس مصطنع (الكركم) يُعاد تعريف العلم.
خاتمة: التهريج كزيادة على الأزمة
ترند لابوبو وترند الكركم ليسا مجرد نكات ديجيتال،
بل هما مشاعل يصبّها واقع ثقافي واجتماعي في زجاجات و”صناديق فرح”، يخفيان هشاشة المعرفة والغرق في سطوة الصورة والوجع البصري.
يهيمن عليهما منطق الاستهلاك اللحظي الذي يلهب مشاعر الانبهار، لكنه يُفقد الإنسان العربي فرصة التوقف عند ذاته وأكثر، أي الفعل الاجتماعي بمعناه الوجودي الحقيقي.
تكشف ترندات مثل “لابوبو” و”الكركم” عن معركة خفية داخل المجتمع الجزائري بين ثقافتين: واحدة تبحث عن الاعتراف، والمعنى، والجدوى؛ وأخرى تؤمن بأن العالم عبث كبير يجب السخرية منه قبل أن يدمرك. هنا تصبح السخرية هي “سلاح الضعيف”، لكن أيضًا “قيده الذهني”، حيث يتخلى المجتمع عن أدوات الفعل النقدي لصالح لذة الضحك اللحظي.
ليست هذه الظواهر سطحية كما تبدو. إنها تكشف هشاشة البنى الثقافية والتربوية، وتحمل علامات انزلاق جماعي نحو ثقافة لا تحتمل الحقيقة، ولا تعترف بالمعرفة، لكنها تهرب منها بخفةٍ قاتلة
ترند لابوبو وترند الكركم ليسا مجرد موجتين على تيك توك، بل علامات على تحوّل بنيوي في الوعي الاجتماعي والثقافي في الجزائر. هما مرآة لجيل يعيش الحيرة، ويبحث عن الهوية وسط فوضى الرموز، ويمارس التفاعل الاجتماعي دون عمق. هكذا تتجلى التفاهة كممارسة جماعية، لا بوصفها سطحية فقط، بل كمقاومة سلبية، وكتمثيل لصراع رمزي على المعنى في مجتمع تتراجع فيه السلطة الرمزية للمؤسسات التقليدية. في ظل هذا، تصبح السوسيولوجيا ضرورية ليس فقط لفهم “ماذا يفعل الناس؟” بل “لماذا صار ما لا معنى له هو الأكثر معنى؟”.
مراجع مقترحة
بورديو، بيير ؛ التمييز: نقد اجتماعي للذوق؛ 1980
غوفمان، إرفينغ ؛عرض الذات في الحياة اليومية ؛1959
أدورنو، ثيودور، وهوركهايمر، ماكس؛ جدل التنوير.1944
بودريار، جان ؛شفافية الشر، 1990
ديبور، غي؛ مجتمع المشهد،1967






































