( هذا ما تبقى من الحلم )
في أحد أحياء غزة، حيث الجدران المتشققة تحفظ أسرارًا أكثر مما تحصيها الكلمات، كانت “رُقيّة” تلهو بدميتها الصغيرة، وقد رسمت على وجهها ابتسامة لم تفارقها رغم كل شيء.
كانت في السابعة من عمرها، طفلة تملك من البراءة ما يكفي لإنارة ظلام الاحتلال. كل صباح، كانت تجلس عند عتبة البيت، تنتظر شيئًا ما… ربما عيدًا، ربما سلامًا، أو حتى قطعة حلوى من السماء. لكنها كانت تنتظر .
في زقاق الحارة، اعتادت أن تلعب مع صديقاتها. لم تكن تفهم معنى الحرب، لكنها كانت تعرف أن هناك “ضوءً” يأتي من الطائرات، يليه صوت يهز الأرض والقلوب. في كل مرة كانت تركض نحو والدتها وتهمس:
— “ماما، هل اقترب العيد؟”
والأم كانت تبتلع دمعتها، تهدهدها وتجيب:
— “قريبًا يا روحي … قريبًا سيأتي العيد.”
في صباح أحد الأيام، استيقظت رقيّة باكرًا، ارتدت فستانها الأبيض الذي احتفظت به لأيام العيد، وعلّقت ضفائرها بشرائط حمراء. قالت لأمها بحماس:
— “سأذهب لألعب مع ليلى! ربما اليوم هو العيد !”
ابتسمت الأم، رغم الألم، و وقفت تراقبها وهي تقفز فوق حجارة الحي، تغني، وتضحك…
فجأة … دوى الانفجار.
ارتج الحيّ، سقطت النوافذ، وتبعثرت الأحلام. دخان، وصراخ، وغبار يتصاعد من بين الركام. ركضت الأم حافية القدمين، تبحث عن صوت ابنتها، عن ضحكتها، عن بقايا فستانها الأبيض.
وجدت رقيّة ،،،
كانت هناك… ساكنة، مبتسمة، كما لو أن العيد قد أتاها أخيرًا. دميتها بجانبها، يدها ممدودة كأنها ما زالت تلعب.
وفي نفس اللحظة، على طرف الشارع، كان آدم، طفل في العاشرة من عمره، يجلس على الأرض، يحتضن كيسًا بلاستيكيًا شفافًا، خالطته بقع دم، وعيناه فارغتان كأنهما اختبرتا ما لا يمكن لطفل أن يحتمله.
اقترب منه أحد المسعفين وسأله برفق: — “ماذا تحمل يا بني؟”
ضمّ الكيس إلى صدره أكثر في حالة ذهول وقال بصوت مبحوح:
“هذا… ما تبقى من أخي.”
لم يكن يبكي، فقط يحتضن الكيس كما يحتضن طفل لعبته المفضلة. ربما لم يفهم بعد أن العيد لن يأتي لأخيه، أو ربما عرف… لكنه أراد أن يحتفظ به كما هو.
دفنت رقيّة في اليوم التالي، والنساء حولها يقرأنَ الفاتحة، والرجال يبكون في صمت. الفستان الأبيض بات كفنها، والشرائط الحمراء عُلقت على قبرها الصغير.
قالت الأم، و دمعة معلّقة بين الرموش:
— “رحلت وهي تزهو بعفويتها… لم ترعبها القنابل، ولا صوت الطائرات ، بل كانت تحلم… تحلم بالعيد.”
وفي زوايا الحي، ظل الأطفال يلعبون، يرسمون الأمل على الجدران المخضبة بالدم، يهتفون:
“نحن أطفال فلسطين… وسننتظر، بفارغ الصبر، عيدنا القادم، ولو كان في السماء.”
وفي المساء، خيّم الصمت على الحي ، لكنه لم يكن صمت الراحة، بل صمت الخسارة… صمت من عرف الفقد مبكرًا.
جلست الأم عند عتبة بيتها، تمسك دمية رقيّة، تمرر أصابعها على خصلات خيطها المشعثة، كأنها تحاول أن تلمس وجه ابنتها من جديد. أمامها، جلس آدم، الذي لا يزال يحتضن الكيس البلاستيكي، رافضًا أن يترك ما تبقى من أخيه.
صمتت السماء، حتى الطائرات غابت، كأنها اكتفت من الدم.
وفي تلك اللحظة، نظر آدم نحو الأفق، وقال بهدوء:
— “سأكبر… وأحكي عنه. عن أخي. عن رقيّة. عن العيد اللي ما إجا.”
ردّت الأم، ووجهها نحو السماء:
— “وإذا ما إجى العيد، إحنا بنصنعه… بضحكتهم، بذكراهم، وبدموعنا اللي صارت تسقي تراب الوطن.”
ثمّ هبّ نسيم خفيف، كأنّ السماء تنحني لتمسح الحزن عن قلوبهم.
لم يكن في الأفق أملٌ كثير… لكن كان في القلوب إيمان لا يُقصف.
إيمان بأن الأعياد، وإن تأخرت، لا تموت…
بل تولد من تحت الركام،
على هيئة طفل…
يحمل دمية، أو كيسًا بلاستيكيًا،
ويقول للعالم:
“هذا… ما تبقى من الحلم.”
بقلمي سامية البابا
فلسطين






































