ليلة القبْض على فاطمة..
ليلةٌ تَحكِي.. وقُلُوبٌ تَخْشَعُ..
بقلم: سلمى صوفاناتي
في تِلكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي انْكَسَرَ فِيهَا القَمَرُ خَجَلًا مِنْ بَشَاعَةِ البَشَرِ، وَقَفَتْ فَاطِمَةُ كَشَجَرَةِ زَيْتُونٍ عَتِيقَةٍ تُنَازِعُ العَاصِفَةَ.. جُذُورُهَا مُمْتَدَّةٌ فِي أَعْمَاقِ التُّرَابِ، وَفُرُوعُهَا تَحْمِلُ أَثْقَالَ السِّنِينَ. السِّكِّينُ فِي يَدِهَا لَمْ يَكُنْ سِلَاحًا، بَلْ كَانَ “صَرْخَةً صَامِتَةً” أَرَادَتْ أَنْ تَقْطَعَ حَبْلَ الصَّمْتِ الَّذِي التَفَّ حَوْلَ عُنُقِهَا طَوِيلًا.
– مَاذَا فَعَلْتِ يَا فَاطِمَةُ لِتَسْتَحِقِّي هَذَا المَصِيرَ؟!
لَقَدْ وَهَبَتْ رُوحَهَا قِطْعَةً قِطْعَةً: لِلْأُمُومَةِ الَّتِي حَمَلَتْهَا وَهِيَ لَمْ تَنْجِبْ، لِلْحُبِّ الَّذِي قَتَلَتْهُ كَيْ لَا يَقْتُلَهَا، لِلثَّوْرَةِ الَّتِي شَارَكَتْهَا ثُمَّ نُسِبَتْ لِغَيْرِهَا. حَتَّى جَاءَ اليَوْمُ الَّذِي أَرَادُوا فِيهِ سَرِقَةَ آخِرِ مَا تَبَقَّى مِنْهَا: عَقْلُهَا! فَرَفَضَتْ أَنْ تَكُونَ مَجْنُونَةً كَمَا زَعَمُوا، وَاخْتَارَتْ أَنْ تَكُونَ النَّارَ الَّتِي تَحْرِقُ الأَقْنِعَةَ. عِنْدَمَا أَدَارَتْ ظَهْرَهَا لِلْجِدَارِ، وَوَاجَهَتِ الجَمِيعَ بِحِكَايَتِهَا، تَحَوَّلَ السَّطْحُ إِلَى “مَحْكَمَةٍ شَعْبِيَّةٍ” يَدِينُ فِيهَا الضَّمِيرُ الأَحْيَاءَ! كُلُّ كَلِمَةٍ نَطَقَتْهَا كَانَتْ “مِسْمَارًا” فِي نَعْشِ الظُّلْمِ، وَكُلُّ دَمْعَةٍ سَالَتْ مِنْهَا – نَهْرًا جَرَفَ أَقْنِعَةَ النِّفَاقِ. حَتَّى أُغْنِيَةُ “بِتِغَنَّى لِمِينْ يَا حَمَامْ” صَارَتْ تَرْنِيمَةَ الثَّائِرِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ!
—
اللَّوْحَةُ الأُولَى: حِكَايَةُ امْرَأَةٍ لَمْ تَكُنْ مَجْنُونَةً، وَلَكِنَّ العَالَمَ حَوْلَهَا كَانَ كَذَلِكَ!
فِي لَيْلَةٍ حَالِكَةٍ، تَتَدَلَّى فَاطِمَةُ – ذَلِكَ المَلَاكُ البَائِسُ – عَلَى حَافَةِ السَّطْحِ، بَيْنَمَا تَحْتَهَا يَتَجَمَّعُ الجِيرَانُ كَفَرَاشَاتٍ تَنْجَذِبُ نَحْوَ النَّارِ. لَيْسَتْ مَجْنُونَةً كَمَا يُزْعَمُ، بَلْ هِيَ الضَّحِيَّةُ الَّتِي حَمَلَتْ قَلْبًا أَكْبَرَ مِنْ ذَاكِرَةِ الوَطَنِ، وَذَاكِرَةً أَقْسَى مِنْ قَلْبِ الخُوَنةِ.
هِيَ تُمسِكُ بِحِبَالِ حَيَاتِهَا المُتَهَالِكَةِ، وَتَصْرُخُ بِحِكَايَتِهَا فِي وَجْهِ الرِّيحِ: كَيْفَ رَبَّتْ أَخَاهَا “أَمِينَ” عَلَى دَمْعَةٍ يَتِيمَةٍ وَكُسْرَةِ خُبْزٍ يَابِسَةٍ، فَإِذَا بِهِ يُكَافِئُهَا بِاتِّهَامِهَا بِالجُنُونِ! كَيْفَ ضَحَّتْ بِحُبِّهَا “لِسَيِّدٍ”، ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي ظَلَّ ظِلَّهَا الوَحِيدَ فِي لَيَالِي الغَدْرِ الطَّوِيلَةِ. كَيْفَ سَاعَدَتِ المُقَاوَمَةَ فِي بُورَسَعِيدَ بِيَدٍ، بَيْنَمَا كَانَ أَخُوهَا يَبِيعُ الأَرْضَ بِيَدٍ أُخْرَى.
لَكِنَّ القَدَرَ، ذَلِكَ المُخْرِجَ العَظِيمَ، كَانَ يَحْفَظُ لَهَا فَصْلًا أَخِيرًا.. لَيْلَةً يَنْقَلِبُ فِيهَا السِّحْرُ عَلَى السَّاحِرِ، وَيَسْقُطُ القِنَاعُ عَنْ وَجْهِ “أَمِينِ المَنْزَلَاوِي”، فَيَتَحَوَّلُ مِنْ رَجُلِ الدَّوْلَةِ إِلَى مُجْرِمٍ فِي قَفَصِ الِاتِّهَامِ!
—
اللَّوْحَةُ الثَّانِيَةُ: أَبْطَالُ المَسْرَحِيَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ.. مَنْ رَسَمَ مَأْسَاتَهُمْ بِأَلْوَانِ البَرِيقِ وَالدَّمِ؟
– “فَرْدُوسُ عَبْدِ الحَمِيدِ” (فَاطِمَةُ):
لَمْ تَكُنْ تُمَثِّلُ دَوْرَ البَطْلَةِ.. بَلْ كَانَتْ تُنْزِفُ رُوحًا حَقِيقِيَّةً عَلَى الشَّاشَةِ. كُلُّ نَظْرَةٍ مِنْ عَيْنَيْهَا حَمَلَتْ قَرْنًا مِنَ الصَّمْتِ المَكْبُوتِ، وَكُلُّ حَرَكَةٍ لَهَا كَانَتْ كَأَنَّهَا تَرْسُمُ لَوْحَةً بِالفُرْشَاةِ الأَخِيرَةِ لَهَا فِي هَذِهِ الحَيَاةِ.
– “فَارُوقُ الفِيشَاوِي” (أَمِينٌ):
صَنَعَ مِنْ شَخْصِيَّتِهِ شَرًّا مُرَقَّصًا بِأَنَاقَةٍ. لَمْ يَصْرُخْ أَوْ يَزْبُدْ.. بَلْ كَانَ يُغْتَالُ بِابْتِسَامَةٍ، وَيَخُونُ بِنُعُومَةِ السِّكِّينِ فِي الظَّهْرِ.
– “يُوسُفُ شَعْبَانَ” (سَيِّدٌ):
الحُبُّ الضَّائِعُ.. الرَّجُلُ الَّذِي وَقَفَ كَشَجَرَةِ ظِلٍّ فِي حَيَاةِ فَاطِمَةَ، لَكِنَّ جُذُورَهَا مُنِعَتْ مِنَ النُّمُوِّ.
– أَمِينَةُ رِزْقٍ، صَابِرِينُ، حُسَيْنُ الشَّرْبِينِيُّ:
مَثَّلُوا تِلْكَ الجَوْقَةَ التَّرَاجِيدِيَّةَ الَّتِي تُذَكِّرُنَا بِأَنَّ الدّرَامَا لَيْسَتْ فِي البَطْلِ وَحْدَهُ، بَلْ فِي التَّفَاصِيلِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُذِيبُ القُلُوبَ.
—
اللَّوْحَةُ الثَّالِثَةُ: العُقُولُ الخَلْفِيَّةُ.. مَنْ أَوْقَدَ هَذِهِ الشَّعْلَةَ الفَنِّيَّةَ؟
– “سُكَيْنَةُ فُؤَادٍ” (مُؤَلِّفَةُ القِصَّةِ الأَصْلِيَّةِ):
اسْتَلْهَمَتْ رُوحَ “زَيْنَبَ الكَفْرَاوِي”، الفِدَائِيَّةِ البُورَسَعِيدِيَّةِ، وَحَوَّلَتْهَا إِلَى أُسْطُورَةٍ دِرَامِيَّةٍ تَخْلُدُ فِي الذَّاكِرَةِ.
– “مُحْسِنُ زَايِدُ” (سِينَارْيُو وَحِوَارٌ):
نَسَجَ الكَلِمَاتِ كَخُيُوطٍ حَرِيرِيَّةٍ بَيْنَ الأَلَمِ وَالأَمَلِ، فَجَعَلَ الحِوَارَاتِ سَكَاكِينَ تُغْرَزُ فِي الضَّمِيرِ.
– “مُحَمَّدُ فَاضِلٍ” (المُخْرِجُ):
أَدَارَ الكَامِيرَا كَعَازِفِ بِيَانُو يَعْرِفُ بِالضَّبْطِ مَتَى تُضْغَطُ الأَوْتَارُ بِقُوَّةٍ، وَمَتَى تُتْرَكُ لِتَتَرَنَّحَ فِي صَمْتٍ.
—
اللوحة الرّابعة: عمار الشّريعي.. موسيقى تُكتَبُ بالدّموع!
لم يكن “عمار الشّريعي” مجرّد ملحّنٍ، بل كان ساحرًا يحوِّل المشاعرَ إلى نوتاتٍ. أُغنيته “بِتِغَنَّى لِمينْ يَا حَمَامْ”- التي كَتَبَها الشاعر “سيد حجاب” – لم تكن مجرّد كلماتٍ، بل كانت صرخةَ فاطمة الّتي تحوَّلت إلى ترنيمةٍ أبديّةٍ.
كُلُّ عَزْفَةٍ مِنْ مُوسِيقَاهُ كانت كإبرةٍ تخيطُ الجروحَ القديمةَ، ثمّ تفتحُها مِن جديدٍ.. وكأنّه يقولُ لنا: “انظروا! هذا الألمُ لم يَزُلْ بَعْدُ!”.
الخاتمة: لماذا يظلُّ هذا العملُ خالدًا؟
لأنه ليس مجردَ مسلسلٍ.. بل مرآةً رفعتها الدراماُ المصريةُ في وجهِ كُلِّ ظالمٍ، وكُلِّ مَنْ خانَ الأمانةَ، وكُلِّ امرأةٍ ضُرِبَتْ بالقسوةِ فتحوَّلتْ إلى تمثالِ صَبْرٍ.
لقد سبقَ المسلسلُ زمنَهُ.. ففاطمةُ لم تكن مجردَ شخصيةٍ، بل كانت نُبُوءَةً بِكُلِّ النِّساءِ اللاتِي سَيُكْسَرْنَ القيودَ يَوْمًا مَا.
> “بِتِغَنَّى لِمينْ يَا حَمَامْ؟
> والدَّمْعُ في الخُدُودِ سِجَامْ..
> أُغَنِّي للغُرْبَةِ والآلامِ
> وأُغَنِّي ليلَ زَمَانِي الطُّوَّامْ!”
هكذا تُكتَبُ الأعمالُ الخالدةُ.. بحبْرِ القَلْبِ، وَوَرَقِ الرُّوحِ!
“ليلةُ القبضِ على فاطمةَ”.. حينَ يصبحُ الفنُّ مرآةً للضَّمِيرِ الجَرِيحِ.
—
اللوحة الخامسة: الظلالُ التي صنعتِ الأسطورةَ..**
لم يكنِ المسلسلُ مجردَ عملٍ دراميٍّ عابرٍ، بل كان “صَرْخَةً في وَجْهِ الزَّمَنِ”، كُتِبَتْ بحروفٍ مِنْ نارٍ وَدَمٍ. كُلُّ مَشْهَدٍ فيه كان يُمْسِكُ بِرَقَبَةِ الوَاقِعِ ويَصْرُخُ: “هذا ما تَفْعَلُهُ الخِيَانَةُ بالنُّفُوسِ البَرِيئَةِ!”
– “السِّينَارْيُو”:
لم يكتفِ “محسن زايد” بسَرْدِ القِصَّةِ، بل حَفَرَهَا في وَجْدَانِ المُشَاهِدِ كالنَّقْشِ على الحَجَرِ. حَوَارَاتُهُ كانت كالسِّهَامِ، كُلُّ كَلِمَةٍ تُصِيبُ القَلْبَ قَبْلَ الأُذُنِ.
– “الإخْرَاجُ”:
“محمد فاضل” لم يُخْرِجِ المَشَاهِدَ، بل أَجْرَى عَمَلِيَّاتِ تَشْرِيحٍ للرُّوحِ.. الكَامِيرَا كانت عَيْنًا لا تَرْمُشُ، تُسَجِّلُ كُلَّ دَمْعَةٍ، كُلَّ ارْتِعَاشَةٍ، كُلَّ نَظْرَةٍ حَائِرَةٍ تَائِهَةٍ بَيْنَ الأَلَمِ وَالغَضَبِ.
– “المُوسِيقَى”:
“عمار الشريعي” لم يَضَعِ المُوسِيقَى، بل “صَنَعَ مِنْهَا رُوحًا ثَانِيَةً للعَمَلِ”. كانت مُوسِيقَاهُ كَالرِّيحِ تَحْمِلُ عَوِيلَ فَاطِمَةَ مِنَ السَّطْحِ إلى كُلِّ بَيْتٍ في مِصْرَ.
—
اللوحة السادسة: المشاهدُ التي لا تُنْسَى..
1. “لَحْظَةُ التَّهْدِيدِ بِالانْتِحَارِ”:
وَقَفَتْ فَاطِمَةُ على حَافَةِ السَّطْحِ، لَيْسَ جَسَدُهَا هُوَ المُهَدَّدَ بِالسُّقُوطِ، بَلْ “إِنْسَانِيَّتُهَا”. الرِّيحُ كانت تَعْوِي حَوْلَهَا كَأَنَّهَا تُرَدِّدُ: “انْظُرُوا مَا فَعَلْتُمْ بِهَا!”
2. “فَلَاشْبَاكْ بُورَسَعِيدَ”:
مَشَاهِدُ المُقَاوَمَةِ لَمْ تَكُنْ مَجَرَّدَ اسْتِعَادَةٍ للذِّكْرَى، بَلْ “تَذْكِيرًا بِأَنَّ الخِيَانَةَ لَيْسَتْ جَدِيدَةً”.. هِيَ تَتَكَرَّرُ كُلَّمَا وُجِدَ خَائِنٌ وَمُسْتَعْمِرٌ.
3. **”سُقُوطُ أَمِينٍ”**:
لَمْ يَكُنْ سُقُوطًا مِنَ السُّلْطَةِ فَقَطْ، بَلْ “سُقُوطُ قِنَاعٍ” عن وَجْهٍ كان يُخْفِي وَحْشًا طَوِيلًا.
—
اللوحة السابعة: لِمَاذَا نَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ السِّنِينَ؟
لأن “فَاطِمَةَ لَمْ تَمُتْ”.. مَا زَالَتْ تَعِيشُ في كُلِّ امْرَأَةٍ تُضَحِّي مِنْ أَجْلِ آخَرِينَ فَيُكَافِئُونَهَا بِالجُحُودِ.
لأن “أَمِينًا لَمْ يَسْقُطْ”.. مَا زَالَ هُنَاكَ مَنْ يَبِيعُونَ الأَوْطَانَ بِأَرْخَصِ الأَثْمَانِ.
لأن “سَيِّدًا مَا زَالَ يَقِفُ”.. كُلٌّ مِنَّا لَدَيْهِ حَبِيبٌ أَوْ حُلْمٌ ضَحَّى بِهِ في يَوْمٍ مَا.
المَسْلَسَلُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِضُ قِصَّةً..، بَلْ كان “يُجْرِي عَمَلِيَّةَ تَنْبِيهٍ لِلضَّمِيرِ”.
—
كَلِمَةٌ أَخِيرَةٌ: تَحِيَّةٌ لِفَنٍّ لَا يَتَكَرَّرُ..
اليَوْمَ، نَنْظُرُ إلى هَذَا العَمَلِ لَيْسَ كَمُشَاهِدِينَ، بَلْ “كَطُلَّابٍ في مَدْرَسَةِ الفَنِّ الأَصِيلِ”. مَدْرَسَةٍ لَمْ تَكُنْ تَلْهَثُ وَرَاءَ الإِثَارَةِ الرَّخِيصَةِ، بَلْ كَانَتْ تَبْحَثُ عن “الجَمَالِ حَتَّى في القُبْحِ”، وَعَنْ “العَدْلِ حَتَّى في الظُّلْمِ”.
> “لَيْسَتِ العِبْرَةُ في عَدَدِ الأَعْوَامِ الَّتِي يَعِيشُهَا العَمَلُ، بَلْ في عَدَدِ القُلُوبِ الَّتِي يَهُزُّهَا.. وَ”لَيْلَةُ القَبْضِ عَلَى فَاطِمَةَ” هَزَّتْ قُلُوبًا لَنْ تَهْدَأَ أَبَدًا.”
هكَذَا تُخَلَّدُ الأَعْمَالُ.. لَيْسَ بِالبَهْرَجَةِ، بَلْ “بِالصِّدْقِ الَّذِي يُحْرِقُ الأَكَاذِيبَ”، وَ”بِالجَمَالِ الَّذِي يَبْقَى حِينَ تَزُولُ كُلُّ الزَّوَائِفِ”.








































Discussion about this post