“سك على بناتك”: رقصة الأشباح في قفص التّقاليد .
بقلم :سلمى صوفاناتي
تحت أضواء مسرح القاهرة الّتي تتمايل كأشباحٍ سكرى، انبثقت عام 1980 مسرحيّة “سكّ على بناتك” كطلقة مدوَية في صمت الليالي البالية. لم تكن مجرّد عرضٍ هزلي، بل كانت ثورةً مكتومةً تحت مساحيق الكوميديا، حكاية عن قلوبٍ تُسجن خلف قضبان “العُرف”، وأبٍ يبيع بناته في سوق الزَواج كي يعود إلى حضن حبيبته الّتي جسّدت دورها النّجمة شويكار .
الدّكتور رأفت: سادن المعبد الفارغ
في منزلٍ يشبه متحفاً للآثار المحنّطة، يقبع الدّكتور “رأفت” (فؤاد المهندس) ككاهنٍ متعصّب في معبدٍ بلا آلهة. ثلاثة طيور محبوسات في قفصه الذّهبيّ: “فوزية” (سناء يونس) الّتي تتنفّس بالنّيابة عنه، و”سوسو” (شريهان) الّتي ترفرف بأجنحة مكسورة، و”نادية” (إجلال زكي) الّتي تحلم بالهروب من سِجلّ العائلة المهترئ. رجلٌ يحوِّل الأبوّة إلى محكمة تفتيش، ويختزل حياة بناته في عقد زواجٍ يُكتب بحبر الخوف.
لكنّ الدّم الّذي يجري في عروق البنات ليس ماءً راكداً. “سوسو” و”نادية” ترفضان “سامح” (أحمد راتب)، ذلك العريس الّذي يشبه – في جموده – الحشرات الّتي يدرسها في معمله. وفي مشهدٍ يذوب فيه الضّحك في العتمة، تتحوّل عصا الأب إلى إبرة تخيط أفواه بناته بخيوط الطّاعة الزّائفة.
الضّحك: طلقة الرّصاص الأخيرة
العبقريّة هنا تكمن في ذلك السّكين المغموس بالعسل. “حنفي” (محمد أبو الحسن)، العريس الهزليّ الّذي يتقدّم لخطبة “فوزية”، يتحوّل إلى دميةٍ تتراقص على جثّة الكرامة. أمّا شريهان، فكانت كالفراشة الّتي انسلّت من شرنقة النّصّ لتعلن عن مولد أسطورة. الإخراج: جرحٌ ينزف دماً وضحكات
أمسك فؤاد المهندس بمقصّ الإخراج ليقصّ من الورق شخصيّاتٍ تبدو كدمى، لكنّها تنزفُ أسراراً كالجراح المفتوحة. لينين الرّملي، ساحرة الكلمات، نسجت النّصّ كسجّادةٍ من حريرٍ تخفي تحت زخارفها خناجرَ من فضّة. المسرحيّة لم تكن عن “السّكوت على البنات”، بل عن الصّرخة الّتي تُختنق في الحلق.
— كواليس المسرحيّة: حين تتحوّل الصّدف إلى أساطير .
في ذلك العالم السّحريّ خلف السّتار، حيث تُنسج اللحظات بخيوط من ذهبٍ وضحك، كانت “سكّ على بناتك” أكثر من مسرحيّة—كانت مدرسةً لفنِّ العطاء.
أحمد راتب: عندما حوّل الزّكام إلى ضحكةٍ خالدة
في ليلةٍ كان فيها صوته مجروحاً بالزّكام، لم يعلم أحمد راتب أنّه على وشك كتابة أسطورة. ذلك الصّوت المبحوح الّذي ارتجف حين صاح في وجه “الدّكتور رأفت”، تحوّل إلى لحظةٍ مسرحيّةٍ ذهبيّة. همس فؤاد المهندس في أذنه: “إزعق هكذا كلّ ليلة!” وهكذا وُلدت ضحكةٌ من رحم المعاناة.
شريهان ومحسن: رقصةٌ كتبها القدر
لم تكن رقصة “سوسو” و”حنفي” في النّصّ الأصليّ، لكن شريهان ومحسن محيي الدّين حوّلا موهبتهما في الرّقص إلى مشهدٍ أسطوريّ. حتّى تلك الكلمة العفويّة “أنا بُصّ!” الّتي انطلقت من إرهاق محسن، صارت ضحكةً تتردّد في كلّ عرض.
فؤاد المهندس
لم يكن رجلاً عاديّاً، بل ساحراً يوزّع البهجة كالعهد بالورد. حين أعطى محمد أبو الحسن أجمل الأدوار وأطرف الجمل، كان يعلّمنا أنّ الكوميديا الحقيقيّة هي أن تضحك من قلبك، حتّى لو كان الثّمن أن تتنحّى قليلاً لتُضيء من حولك.
لقد كانت “سكّ على بناتك” أكثر من مسرحيّة—كانت درساً في كيف نصنع من الألم ضحكةً، ومن الصّمت صرخةً، ومن العطاء فنّاً خالداً.







































Discussion about this post