بقلم … زكريا نمر
“حين تأتي القهوة بثوب أسود.!
يأتي كوب الشّاي كما لو كان جنديًّا في معركة،
يقف أمامك صامتًا، بلا زخارف أو حيلة،
يحمل سواد المعارك على وجهه،
يؤدّي مهمته بإتقان، ثم ينصرف إلى حال سبيله،
بلا وداع، بلا أثر.
أمّا القهوة، فتحضر كأنثى بكامل زينتها،
تتبختر في فستانها الأسود الأنيق،
تضع كحلًا ناعمًا على عينيها،
تغلّفها نقوش ساحرة تروي الحكايات،
بجوارها تشعر أنّ الزّمن ينزلق من بين أصابعك
وتتمنّى لو أنّ الجلوس معها لا ينتهي.
صحبة الشّاي كصحبة صديق مرح،
يملؤك بالحيويّة لكنّه لا يحرّك فيك مشاعر الجمال،
ترشفه رشفة بعد رشفة،
دون أن تنتبه كم تبقّى منه،
وإن رغبت في المزيد،
عدت إلى براده الدّائريّ
الّذي يشبه خرطوم الفيل في ضخامة تصميمه،
خاليًا من الدّقة أو الإبداع،
كأنّه صنع لإنجاز المهمّة فحسب،
نار إعداده سريعة، لا ترحم،
كأنّ في الأمر استعجالًا لا يترك مجالًا للذوق أو التّأمّل.
أمّا القهوة، فهي أنثى تهيّأ على مهل،
تعدّ على نار هادئة كما تُطهى قصيدة عشق،
يُراعى فيها جمال الوجه، وطيب الرّائحة، وحسن المظهر،
أنثى كلاسيكيّة، تسبقها رائحتها،
ويتهيّأ الجميع لحضورها باحترام.
تمسك فنجان القهوة برفق،
ترفعه إلى فيك كمن يهمّ بتقبيل يد حبيبة،
تغلق عينيك قبل الرّشفة الأولى،
وكأنّك تخشى أن تفقد لحظة اللقاء،
ترتشفها ببطء، كأنّك لا تريد أن تنهي صحبتها،
فحتّى بعد انتهاء القهوة،
يبقى العشاق يحدّقون في قاع الفنجان،
علّهم يقرأون فيه أثرها، أو مستقبلهم معها.
شاي المناسبات له هيبة أخرى،
يأتي كأرتال جيش منظّمة، دفعة بعد دفعة،
والرّغوة والمذاق ودرجة التّركيز
تحدّد الرّتب، وتكشف مراتب الحضور،
كلّ شيء فيه مرتّب، مضبوط، رسمي.
بينما تحضّر قهوة المآتم كأنثى حزينة،
تتوشّح بالسّواد، تجرّ ذيل فستانها في صمت،
لا تضع مكياجًا، ولا تحلّي طعمها بأيّ شيء،
القليل منها يكفي،
كأنّها تقدّم عهد وفاء لمن رحل،
هي أوّل المواسين في لحظات الفقد،
تحضر لتقول: “أنا هنا… لا تزال الدّنيا بخير.”
بقلم … زكريا نمر







































Discussion about this post