كتب الشّاعر والمثقّف تيسير نصر الدين
بعد قراءتي الممتعة والمعمّقة لرواية “جندي فائض عن الحاجة” للأديب داود أبو شقرة، وجدت نفسي أدخل إلى عالم أدبي متماسك تحكمه لغّة بسيطة في ظاهرها، عميقة في بنيتها ودلالاتها. إنّها لغة السّهل الممتنع، الّتي لا تكتفي بسرد الحكاية بل تبنيها بعناية، وتحمل القارئ من سطر إلى آخر بانسيابيّة آسرة.
يتميّز النّصّ بقدرته الفائقة على تقديم الشّخصيّة بكلّ تفاصيلها الأخلاقيّة والوجدانيّة والنّفسيّة، فنشعر وكأنّنا نعيش مع البطل، نرى العالم من خلال عينيه، ونتنفّس قلقه وأحلامه وانكساراته. لقد استطاع الكاتب أن يجعل من هذه الشّخصيّة، الّتي تبدو في الظّاهر فائضة عن الحاجة، مرآة تعكس وجعًا جماعيًّا ومعاناة متوارثة من تاريخ طويل من الخذلان والانتماء المكسور.
داود أبو شقرة لا يكتب من فراغ، بل يغرف من ذاته وتجاربه وبيئته، يغوص في عمق المكان والذّاكرة، ويعتصر فكرته حتّى القطرة الأخيرة، ليصنع من العالم قدحًا من الفودكا بين يديه. يضع فيه الوجع والسّخرية، الحنين والغضب، ويقدّمه لنا بلغة قادرة على لمس أقصى مشاعر الإنسان. هو الكاتب الّذي ينطلق من المحلّيّ ليبلغ الكونيّ، فيجمع بين الخصوصيّة والتّجربة الإنسانيّة الكبرى.
وهو أيضًا لا يمرّ على التّاريخ مرور العابر، بل يلملم ما تساقط منه سهواً وعمداً من أقلام المؤرّخين. يعيد الاعتبار لما أهمل، ويمنح الصّوت لمن لم يُسمع، فيكتب ما لم يُكتب، ويضيء الزّوايا المعتمة بحبر الذّاكرة وبصيرة الإبداع.
لقد حرص في هذا العمل على الوقوف عند أهمّ المحطات والمفاصل التّاريخيّة والسّياسيّة الّتي صنعت ملامح الصّراع في المنطقة، ليقدّم من خلالها خلفيّة صلبة لفهم الحاضر، لا بوصفه نتيجة حتميّة، بل كسلسلة من الخيارات والأخطاء والانكسارات المتراكمة.
ما يلفت في الرّواية ليس فقط عمق المعالجة النّفسيّة والاجتماعية، بل أيضًا قدرة الكاتب على طرح الهمّ العام من خلال التّفاصيل الصغيرة واليومية، وكأنّ البطل هو كلّ فرد، وكلّ فرد هو الوطن ذاته في حالة ارتباك دائم.
داود أبو شقرة يستحقّ الثّناء على هذه الرّواية الّتي تفيض بالصّدق الفنيّ، والحنكة السّرديّة، والقدرة على اختزال القضايا الكبرى في مشهد، أو عبارة، أو حتّى صمت. نصه لا يُقرأ فقط، بل يُحسّ ويُعاش، ويترك أثرًا لا يُمحى.
إنّها رواية تتجاوز حدود المتعة إلى حدود الوعي، وتُرغم القارئ على التّوقّف، والتّفكّر، وربّما إعادة النّظر في مفاهيم كثيرة. تجربة قرائيّة مميّزة، تحمل كلّ معاني الأدب الحقيقي الّذي يمسّ الإنسان في جوهره.
خاتمة “جندي فائض عن الحاجة” كانت ذروة دراميّة بامتياز، جسّدت التّناقضات الحادّة الّتي يعيشها الإنسان المهمّش.
الفقر ”جنزير السباع” يعكس قيدًا لا يُكسر، يُفترس به الفقير مرّتين: مرّة من الحياة والقدر، وأخرى من المجتمع والدّولة العاجزة والمنكوبة.







































Discussion about this post