بقلم … لبنى حمادة
“أصابعُ على مِشجَبِ الفَقدِ”
طَلْقَةٌ واحِدَةٌ كافِيَةٌ
لِتَحويلِ المَلامِحِ إلى أَثَرٍ
الأَثَرِ إلى رَمادٍ
والرَّمادِ إلى حُفرَةٍ
لا تَحمِلُ مَلامِحَ أَحَدٍ.
كانوا وُجوهًا…
قَناديل مُعَلَّقَةً في ضَميرِ الغَيْبِ
ابتَلَعَ اللَّيلُ بَريقَهُم كأنَّهُمُ لمْ يَكونوا
وَحدَها الجُدرانُ الّتي لمْ تَسقُطْ بَعدُ
تَحمِلُ مَلامِحَهُم شَهِيقًا أَخيرًا
كَأنَّ تاريخًا قَديمًا سالَ من عُيونِ الزَّيتونِ
وَوَشَى التِّينُ والرُّمّانُ بسِرِّ المَواسِمِ المَصْلوبَةِ.
يا اللهُ…
الحَياةُ كَفٌّ مَعْروقَةٌ
تُقَلِّبُ جُثَثَ الأَطْفالِ كأَوراقِ الخَريفِ
تَجمَعُ أَصداءَ الغِيابِ
وتَسكُنُها جُفونَ الزَّمَنِ.
كَمْ مِنْ عُمرٍ
تَسَلَّلَ مِن بَيْنِ أَصابِعِ الخَرابِ؟
أَنا الرّائِيَةُ مِن شُرفَةِ هذا الجَحيمِ
عَيْنٌ الزَّرقاءُ…
أُراقِبُ الحَتْفَ مِن بُعدٍ أَزَلِيٍّ
حَيْثُ يَنزِفُ الغَيْمُ حِجارَةً
وتُولَدُ الصَّرخاتُ شاحِبَةً
قَبْلَ أَنْ تَتَحوَّلَ إلى دُخانٍ.
أَحصي الشَّظايا كَما يُحصي القَلبُ نَبضَهُ
أَفْتَحُ فَمِي
فَيَمْتَلِئُ بِالخَوْفِ.
أَيُّ عارٍ هذا أَنْ نَحْلُمَ بالنَّجاةِ
بَيْنَما البَحْرُ مُمتَلِئٌ بجُثَثٍ
لَمْ تَجِدِ السِّباحَةَ في دِمائِها؟
كانوا أَسْماءً…
لَكِنَّ الأَسْماءَ تَذوبُ أَسرَعَ مِن لُحومِ الضَّحايا
وَحدَهُنَّ الأُمَّهاتُ يَتَعَلَّمْنَ تَهْجِئَةَ الفَراغِ
يَربِطْنَ أَسْماءَ أَبْنائِهِنَّ حَوْلَ مَعاصِمِ الذّاكرَةِ
خَشْيَةَ أَنْ تَأْكُلَها الرِّيحُ
يَعْرِفْنَ كَيْفَ يُعَلَّبُ الحَنانُ في قَلْبٍ يَرتَجِفُ.
يا اللهُ…
كَيْفَ يُصْبِحُ الاسمُ رَمْسًا
قَبْلَ أَنْ يُلْفَظَ؟
كَيْفَ تَكونُ الطُّفولَةُ رَصاصَةً
لا تَهبِطُ إِلّا على الجِباهِ؟
كَيْفَ أُنْجِبُ رُوحًا
دونَ أَنْ أُهَيِّئَها لِلْمَوْتِ؟
كَيْفَ أَمْشي إلى الغَدِ
وأَنا أَخافُ أَنْ أُطْوى بَيْنَ قَوْسَيْنِ:
(“كانَتْ هُنا، ثُمَّ صَمَتَتْ لِلأَبَدِ”)؟
الأَرْضُ تَتَثاءَبُ في فَمِ الفاجِعَةِ
تَبتَلِعُ البَياضَ نُطَفًا وُئِدَتْ في رَحِمِ الذُّهولِ.
الأَرْواحُ تَتَعَثَّرُ في صُعودِها
تَتَبَخَّرُ أَطْيافًا في مَهَبِّ الفَقْدِ.
لا أَثَرَ لِظِلالٍ هُنا…
لا شَواهِدَ
لا نافِذَةٌ…
يُطِلُّ مِنْها مَوْتٌ عالِقٌ بِالحَياةِ.
فَقَطْ…
طَوابيرُ طَويلَةٌ مِن صَدًى
يَتَكَرَّرُ على هامِشِ المَجْزَرَةِ
كَنِداءٍ لَمْ يَبلُغِ السَّماءَ:
“هَلْ ماتوا؟
هَلْ شَبِعَ الذِّئبُ؟
هَلِ انْتَهى؟”
عالَمٌ شَرِهٌ…
يَبتَلِعُ الخَرابَ بِنَهَمٍ ومِزاجِيَّةٍ
يَرْسُمُ دَوائِرَ حَوْلَ نِقاطٍ جَديدَةٍ
يُعيدُ تَسْمِيَةَ البِلادِ
كَمَا يُعادُ تَرقِيمُ القُبُورِ.
يَدفِنُ الشَّمْسَ كُلَّ يَوْمٍ تَحْتَ الرُّكامِ الأَحْمَرِ
يُحَوِّلُ السَّماءَ قَمِيصًا مَليئًا بِالطَّعَناتِ
يُسقِطُ الفَراشاتِ مِن دَفاتِرِ مَدارِسِهِم
يُذِيبُهُم في أَسفَلْتِ اللاسَّبيلِ
يُخَبِّئُ الصُّبْحَ في أَكْمامِ اللَّيْلِ العَتِيمِ
حَتّى يَتَلاشَى كَأَدْعِيَةِ نَجاةٍ مَنْسِيَّةٍ.
وحدي أَقِفُ في مُنْتَصَفِ هذا اللَّيْلِ
أَعُدُّ القَتْلَى كَنُجومٍ مُحْتَرِقَةٍ
أَتَساءَلُ:
مَتى يَشْبَعُ الذِّئبُ؟
هَلْ كانَ هُناكَ راعٍ؟
أَم أَنَّنا هُنا وَحدَنا مُنْذُ البِدايَةِ؟
لِماذا لا تَنْبُتُ الأَشْجارُ على قُبورِنا؟
هَلْ يُمكِنُ أَنْ يَعودَ الضَّوْءُ
إلى كَف غائِبٍ؟
سُؤالٌ يَزْحَفُ في حَلْقِي
كَصَوْتٍ مَبْتورٍ
يَتَساقَطُ مَطَرًا أَسْوَدَ:
“هَلْ ماتوا؟
هَلْ ماااااااتوا؟
هَلْ كانَ راضِيًا؟”
هُنا…
في آخِرِ الرُّكامِ
ما زالَ حِذاءٌ صَغيرٌ
يَنْتَظِرُ مَنْ يَعقِدُ شِريطَهُ
وريحٌ تَهْمِسُ…
#lubna_hamada
بقلم … لبنى حمادة







































Discussion about this post