بين الغياب والحضور: دراسة دلالية في قصيدة ” حين يسألك الغياب” للشاعر نور الدين طاهري Tahri Noureddine
بقلم الشاعرة هناء ميكو Hanae Mikou
القراءة في بحر كلمات النص “حين يسألك الغياب” لنورالدين طاهري، أشبه بالغرق في عذوبة الحلم، حيث يقودك النص بلطف إلى عوالم ممتزجة بين الواقع والخيال، وكأن الشاعر يرسم لوحته السريالية بلمسات تتقن مزج الألوان، فتبدو القصيدة وكأنها نشيد شجي يغني للغائبين وللأوقات التي قد تأتي أو قد تبقى سرابا.
افتتح الشاعر نصه بكلمة “حين”، تلك الكلمة التي تتجاوز دورها الظرفي لتتحول إلى سؤال مفتوح على الزمن والغياب والانتظار. “حين” ليست مجرد مدخل زمني، بل هي بوابة للبحث عن معنى اللقاء وسط زحام الغياب. عبر هذه الكلمة، يدخل القارئ في حوار داخلي عميق بين الشاعر وحبيبته، حوار يتماهى مع الزمن الذي يظهر هنا كعنصر مبهم، قابل للتطويع، لكنه أيضا يظل عصيا على الإمساك.
في كل جملة، تتضح قدرة النص على بناء التوتر بين الحاضر والغائب، بين السؤال والإجابة. الأسئلة التي تطرحها الحبيبة حول اللقاء وحول انتهاء الحرب ليست مجرد كلمات، بل هي انعكاسات لصراع داخلي بين الأمل واليأس. أما أجوبة الشاعر فتأتي كصدى حالم يحمل بين طياته طمأنينة مشوبة بحزن خفي، وكأنه يواسي الحبيبة ويواسي نفسه في ذات الوقت، داعيا إلى الصبر والإيمان بأن اللقاء سيأتي يوما، حتى لو كان هذا اليوم بعيد المنال.
القصيدة تتماهى مع طبيعة العلاقة الإنسانية التي تتوق دائما إلى تحقيق السلام الداخلي، لكنها في نفس الوقت تعي أن هذا السلام يظل حلما بعيدا. الشاعر يخلق هنا توازنا جميلا بين الإدراك الواقعي والحنين المفعم بالرغبة، كأنه يقول إن العالم لن يخلو أبدا من صراعاته، وإن الحنين نفسه هو جزء من طبيعتنا البشرية، وهو الوقود الذي يبقينا أحياء رغم كل شيء.
الصور الشعرية في النص تفيض بالرمزية، لكنها تبقى متصلة بجوهر التجربة الإنسانية. المسافة التي يصفها الشاعر ليست مجرد فراغ جغرافي، بل هي شظايا من الحنين، قطع متناثرة من ذاكرة اللقاءات التي لم تكتمل، ومن وعود الحب التي تنتظر أن تتحقق. كل صورة في النص تبدو وكأنها مرآة تعكس ذلك الصراع الأبدي بين الحلم والواقع، بين الرغبة في اللقاء والاعتراف بعبثية التمني في عالم تملؤه الحروب والصراعات.
ومع ذلك، النص لا يغرق في السوداوية، بل يتخذ من الأمل شعاعا يضيء به عتمة الغياب. الحب هنا ليس مجرد شعور عابر، بل هو قوة جبارة تتحدى الزمن والمسافة، كأن الشاعر يقول إن اللقاء، حتى وإن تأخر، سيعيد تشكيل العالم من جديد. في لحظة اللقاء، كما يتخيلها الشاعر، يتوقف كل شيء: تصمت الصراعات، تعود الطيور إلى أعشاشها، ويتجدد التاريخ كأنما ولد من رحم اللحظة ذاتها.
القصيدة “حين يسألك الغياب” لغة شاعرية غنية بالإيحاءات التي تعبّر عن العاطفة والتوق، حيث يفتتح الشاعر النص بسؤال بسيط لكنه عميق: “تسألينني: متى نلتقي؟”. يتنقل الشاعر في هذه الأبيات بين التساؤلات والأجوبة، مخلقا أجواء من الحيرة والانتظار التي تجمع بين الحلم والواقع، وتتجاوز الزمن المادي إلى الأبعاد النفسية والروحية.
القصيدة تنبض بالحميمية، حيث يقترب الأسلوب من المونولوج، وكأن الشاعر يتحدث إلى ذاته كما يتحدث إلى الحبيبة. يتنقل بين الأسئلة التي تحاول كشف الحقيقة الغامضة للقاء المنتظر وبين الإجابات التي توحي بالآمال والتمنيات، ولكنها لا تكتمل أبدا. الأسلوب يعتمد على التكثيف البلاغي، ويكشف عن مشاعر الشاعر بتفاصيل دقيقة وعبارات مفعمة بالحياة، تكشف عن عمق الحلم والتوق.
تستخدم القصيدة المجازات والاستعارات بكثرة، مما يعمق التجربة العاطفية. تعبيرات مثل “حين يهدأ الزمن” و”ويبتسم الفجر بعد غيابه” لا تشير فقط إلى الأوقات، بل تحمل دلالات رمزية تشير إلى تغييرات داخلية تحدث في ذات الشاعر، منتظرة لحظة السلام واللقاء. استعارة “شظايا الحنين” تعبر عن الألم والاشتياق المتناثر في قلب الشاعر، بينما “الدماء التي تتوقف عن التدفق في عروق الأرض” هي تصوير مجازي يلمس الجانب الروحي، حيث يتحقق السلام في اللحظة التي يتوقف فيها الصراع.
النص مليئ بالتضاد بين أضداد مثل “الغياب” و”الحضور”، “الحرب” و”السلام”، “الحزن” و”الأمل”. هذه الأضداد تعكس الصراع الداخلي الذي يعيش فيه الشاعر، إذ تتنازع مشاعره بين التوق للقاء والألم الناتج عن الانتظار. التضاد يخلق توترا شعوريا ينعكس على النص بأسره، مما يتيح للقارئ التفاعل مع هذه المشاعر المتضاربة.
التكرار في الأسئلة والأجوبة يعزز الإيقاع العام للنص، ويشبه اللحن الموسيقي الذي يتكرر بشكل متواز. التكرار يعمق حالة الانتظار التي يعيشها الشاعر، ويخلق تفاعلا بين الزمن والمشاعر، ليبقي الأمل مشتعلا رغم غموض المستقبل. كل جملة في النص تردد إيقاع هذا الانتظار، مكونة نغمة متناغمة بين الحلم والواقع.
استخدام التشبيه في القصيدة يعزز من قوتها البلاغية، كما في قول الشاعر “نحن أرضان تتوقان للقاء”، حيث يصور الحبيبين كأرضين تشتركان في الحنين لبعضهما البعض، وهو تشبيه يعكس العلاقة العميقة بين الشاعر والمحبوبة، وتوق كل منهما إلى الآخر.
في خاتمة القصيدة، يعيد الشاعر التأكيد على أن اللقاء المنتظر ليس بيد الإنسان، بل هو خاضع للقدر. اللحظة التي يتحدث عنها الشاعر تصبح سرا غامضا في غياهب الزمن، كما هو الحال في الحب الذي يأتي دون سابق إنذار. ورغم الحزن الذي يخيم على النص، يبقى هناك شعاع من الأمل. ويظل الشاعر مؤمنا بأن اللقاء سيحدث حين تهدأ الحروب ويصمت الزمن، رغم أنه لا يمكن تحديد متى سيحدث ذلك. الفكرة النهائية التي يتركها الشاعر هي أن الانتظار والحلم والحب هما قوة خفية تربطنا بعالمنا الداخلي والآخرين.
الشاعر في قصيدته لا يكتفي بالحديث عن الحب والانتظار، بل يغوص في التأملات حول الزمن والمصير. يكتب لنا عن العلاقة المعقدة بين الإنسان وذاته، وتوقه إلى السلام الداخلي واللقاء الروحي الذي يبقى بعيد المنال.
———
النص
” حين يسألك الغياب ”
نور الدين طاهري / بلجيكا
تسألينني: متى نلتقي؟
وأجيبك: حين يهدأ الزمن،
ويبتسم الفجر بعد غيابه،
وتنقشع سحب الحروب التي بيننا،
حروب الأرض وحروب الأرواح.
تسألين: متى تهدأ الحرب؟
وأقول: عندما تسكن الكلمات،
وتذوب الجراح في ملوحة الدموع،
ونكتشف أن المسافة
ما هي إلا شظايا حنين.
كل لقاء بعيد هو وعدٌ مشروط،
نصٌّ يروي قصتنا مع الانتظار.
نحن، يا سيدتي،
أكثر من مجرد ظل في حلم بعيد،
نحن أرضان تتوقان للقاء،
لكن السماء التي تجمعنا
لا تظهر إلا في لحظة مفاجئة.
حين نلتقي،
سيتوقف كل شيء للحظة،
وتتوقف الدماء عن التدفق
في عروق الأرض،
وتعود الطيور إلى أعشاشها.
حين نلتقي،
سيتجدد التاريخ،
ونكون بداية جديدة لكل شيء.
لكن لا تسألي عن وقت اللقاء،
فهو سرٌّ مخبأ في عتمة الغيب،
مثل الحب،
يأتي من حيث لا نعلم،
ويتركنا أسرى لشوقه.
إلى ذلك اليوم،
سأظل أكتبك في حروفي،
أبني لكِ وطنا في بياض الورق،
وأرسل إليك سلاما
كلما سكنت نار الانتظار.
وعندما تسألين مجددا: متى؟
أجيبك: حين يسكن العالم من صراعاته،
ويهدأ القلب من حنينه…
نلتقي.———
النص
” حين يسألك الغياب ”
نور الدين طاهري / بلجيكا
تسألينني: متى نلتقي؟
وأجيبك: حين يهدأ الزمن،
ويبتسم الفجر بعد غيابه،
وتنقشع سحب الحروب التي بيننا،
حروب الأرض وحروب الأرواح.
تسألين: متى تهدأ الحرب؟
وأقول: عندما تسكن الكلمات،
وتذوب الجراح في ملوحة الدموع،
ونكتشف أن المسافة
ما هي إلا شظايا حنين.
كل لقاء بعيد هو وعدٌ مشروط،
نصٌّ يروي قصتنا مع الانتظار.
نحن، يا سيدتي،
أكثر من مجرد ظل في حلم بعيد،
نحن أرضان تتوقان للقاء،
لكن السماء التي تجمعنا
لا تظهر إلا في لحظة مفاجئة.
حين نلتقي،
سيتوقف كل شيء للحظة،
وتتوقف الدماء عن التدفق
في عروق الأرض،
وتعود الطيور إلى أعشاشها.
حين نلتقي،
سيتجدد التاريخ،
ونكون بداية جديدة لكل شيء.
لكن لا تسألي عن وقت اللقاء،
فهو سرٌّ مخبأ في عتمة الغيب،
مثل الحب،
يأتي من حيث لا نعلم،
ويتركنا أسرى لشوقه.
إلى ذلك اليوم،
سأظل أكتبك في حروفي،
أبني لكِ وطنا في بياض الورق،
وأرسل إليك سلاما
كلما سكنت نار الانتظار.
وعندما تسألين مجددا: متى؟
أجيبك: حين يسكن العالم من صراعاته،
ويهدأ القلب من حنينه…
نلتقي.
Discussion about this post