ماهية الكتابة بعين كاتبة
بقلم/ زينة لعجيمي
الكتابة تجربة إنسانية تجعل الكاتب يدنو من ذاته فيسبر أغوارها ليستكشفها ويكتشفها من جديد.
ثمة من الكتّاب من يسكب عبراته عبارات مجازية قد تبدو مبالغًا فيها، لكن ما كل مجاز مجاز! يدرك ذلك من شفّت روحه ورَقّ فؤاده، فيهتز للحروف وجدانه ليرتد صداها القوي بخلده حينما يلامس شيئًا ما بأعماقه، ومنهم من يخط بأحرفٍ من نورٍ حكايا الأمل ليتناثر أريج حبره عبقًا زكيًّا بنكهة البهجة والسّعادة، وهنالك من يجود بعصارة فكره وخبراته الحياتية والإنسانية لتكون منارة يهتدي بها غيره، تنير دروبهم باستقاء العِبَر والحِكم منها.
الفصاحة والبلاغة ليست شرطًا لازمًا دائمًا في الكتابة، على عكس مصداقية الكاتب في حرفه وطرحه، فما نبع من القلب وقرَ في القلب دونما إذن، ويحدث أن يذهب بالألباب أحيانًا جمال وسحر الأسلوب وسموّ الفكر.
قد يكون أسوء ما يحدث للكاتب أن يجف حبره ويتوقف نبضه، فيكبت ولا يكتب، تكمن أحيانًا مأساتك ككاتب كونك ضليعا في ترجمة وصياغة مشاعر الآخرين وما يدور حولك في قالب أدبيّ ماتع وساحر، بينما حينما يتعلق الأمر بالكتابة عنك شخصيًا تقف كالمسمار متخشبًا بين محبرتك والدّفاتر تتأملها في صمتٍ وحسرة!
للكاتب صولات وجولات مع الواقع بين التّماهي تارة والتّسامي تارة أخرى، بَيْد أنه حينما يتعلق الأمر بالكتابة عن ذاته في أحايين كثيرة يقبع بعالم مواز، مستسلمًا عاجزًا عن الإفصاح! رغم فصاحته يصعب جدًا عليه التّعبير والإيضاح حين تضج دواخله بما أهمه وألمَ به وحين تبلغ به فوضى أعماقه مداها وحدًّا لا يطاق يتولد عنده النّفور من قلمه بل ربما القطيعة، لتصبح الكتابة غير مستساغة لديه بل صعبة للغاية وحملًا يزيد من ثقل كاهله بدل التّخفيف من وطأته.
كثيرًا ما يتفنّن الكاتب في تصوير الواقع بنظرة ثاقبة وإبداعية، سيما حين يكون هذا الأخير مُريعا فيُضفي عليه مسحة من الإيجابية وشيئًا من التّفاؤل، وقد يشطح بعيدًا بخياله الأفلاطوني، فيحيطه بسياج محكم جاعلًا من واقعةِ المدينة الفاضلة! لكن شتان بين هذه وذاك! كون المثالية ضربًا من وَهَم، تقبع ضمن أحلام وطموحات المصلحين وخيالات الأدباء والشّعراء الحالمة البعيدة عن الواقعية، والتي للأسف قد لا تمتّ للواقع بصلة.
صحيح أن الكتابة الإبداعية تعتمد كثيرًا على الموهبة، إلا أنه يتوجب لزامًا صقل هذه الأخيرة بالمُكنة اللّغوية والدُّرْبة المستمرة عليها، فالكاتب المبدع ليس وليد لحظة أو نتاج صدفة (رغم وجود الاستثناءات) فلكل قاعدة شواذ والشّاذ لا يقاس عليه.
الكتابة إعادة أَنْسَنةِ الإنسان في عالم طغت عليه المادية، فكادت تصيّره أقرب للبهيمية منه للإنسانية.
للكتابة مخاض عسير أحيانًا، كونها عصارة الفكر والفؤاد، تنقيب حثيث بين ثنايا الرّوح وترميم لشغاف القلب وإماطة للأذى عنه مما لحق به ولملمة لأشلاء وشتات الذّات وإعادة هيكلتها مجددًا.
زينة لعجيمي
الجزائر
Discussion about this post