#قصة_قصيرة
” حين بكت الأرض ”
نور الدين طاهري // بلجيكا
لا يستطيع أن يحدد بالضبط كيف بدأ الأمر. حدث فجأة، دون سابق إنذار. كان جالسا في مكتبه، في الطابق العشرين من برج زجاجي، يراقب الشارع الممتد تحته، حركة الناس، السيارات، الأضواء المتراقصة على الإسفلت اللامع بعد أمطار الصباح.
كان كل شيء يبدو طبيعيا… حتى لم يعد كذلك.
في البداية، أحس بشيء غريب، إحساس لا يُفسَّر، كأن الهواء صار أثقل، كأن الجدران تتنفس، كأن الأرض، تحت هذه المدينة العملاقة، تتحرك ببطء، كما لو أنها تستعد لشيء قادم. لكنه تجاهل الأمر، كما يفعل الجميع عندما يواجهون ما لا يستطيعون فهمه.
رن الهاتف. كان صديقه القديم على الخط، ذاك الذي هجر المدينة منذ سنوات، قال له بصوت مبحوح:
— “هل سمعت ذلك؟”
— “سمعت ماذا؟”
— “الصوت… الأرض تتكلم.”
ضحك بسخرية، لكنه لم يُجب.
في المساء، كان يمشي بين الشوارع الضيقة، وحيدا. كان الليل ساكنا، أكثر سكونا مما ينبغي. حتى السيارات القليلة التي عبرت الشارع بدت كأنها تتحرك في فراغ لا نهاية له. عند زاوية أحد المباني، رأى طفلا يجلس على الرصيف، يمرر أصابعه الصغيرة فوق التراب، يرسم دوائر غريبة، ثم يهمس بشيء لم يستطع سماعه.
اقترب وسأله:
— “ماذا تفعل؟”
رفع الطفل رأسه ببطء، وعيناه تلمعان في الظلام كوميض بعيد، ثم قال:
— “أنا أصغي.”
— “تصغي؟ إلى ماذا؟”
— “إلى البكاء.”
أحس بقشعريرة تسري في جسده. التفت حوله، لكن لم يكن هناك أحد. فقط المدينة، صامتة، منتظرة.
حين عاد إلى شقته، سقط الكأس من يده. لم يغب عن وعيه. ظل يسمع، يرى، يتنفس، لكنه لم يعد هو. أحس، في تلك اللحظة، أن الأرض لم تعد كما كانت.
في اليوم التالي، حدث كل شيء دفعة واحدة.
المباني بدأت تتشقق، لكن بلا ضجيج، كأنها تُعِد نفسها للرحيل. الشوارع تقوّست، ثم بدأت تنكمش، تُغلق نفسها كما تُغلَق الجروح القديمة. الأشجار، التي ظلت حبيسة في أوعية إسمنتية لعقود، تحررت، بدأت تكبر، تمتد، تبتلع الأرصفة والأسلاك وكل ما يقف في طريقها.
لم يكن زلزالا، لم يكن طوفانا، لم يكن نهاية العالم.
كانت الأرض فقط… تستعيد نفسها.
الناس خرجوا إلى الشوارع، يصرخون، يركضون، لكن لم يكن هناك موت. كان هناك فقط… تبدّل. شيء جديد يولد من تحت أقدامهم، شيء قديم يعود ليأخذ مكانه.
وحين نظر إلى السماء، لمح تلك الجملة، مكتوبة بوضوح بين الغيوم الرمادية:
“لقد منحناكم كل شيء، ولم تمنحونا إلا الخراب.”
ثم، كما بدأ كل شيء، انتهى.
في الصباح التالي، استيقظ وحده في مدينة لم يعرفها. لا طرق، لا أبراج، لا زجاج. فقط الأرض، كما كانت في البدء.
Discussion about this post