#قصة_قصيرة
صيام على حافة الاغتراب (8)
العنوان… حين يكون بوابةً للعبور
قبل أن يصل إلى مأواه المعتاد تحت القنطرة، توقّف يوسف تحت ضوء مصباح شارع خافت، أخرج الورقة المطوية التي وهبها له الرجل المثقف في ذلك اللقاء العابر، لقاء لم يكن قد استوعب معناه بعد. ببطء، فتحها تحت أصابعه المترددة، كانت الكتابة بخط أنيق، كأن الحبر امتدّ ليخاطب روحه مباشرة.
“دار الحكمة – خلف ساحة سانت كاترين، عند الباب الأزرق القديم.”
ارتفع صوت القطار في البعيد، واختلط بدويّ المدينة التي لا تنام. لم يكن الاسم مألوفا، لكنّه حمل في طياته شيئا أثار فضوله، كأنه مفتاح لخبايا لم يدرك بعد أنه يبحث عنها.
نظر حوله، بروكسل كانت تمضي كعادتها، متجاهلة وجوده كما تتجاهل أولئك الذين يسيرون في شوارعها بعيون متعبة، لكنها هذه الليلة بدت مختلفة. أخذ نفسا عميقا، أعاد طي الورقة، ووضعها في جيبه كما يضع المرء تردّده الأخير، ثم استدار متجها نحو العنوان، لا كعابر سبيل، بل كمن يتبع خيطا لمصيره.
عبر الجسر الحجري، نزل عبر الأزقة الملتوية المؤدية إلى ساحة سانت كاترين. كانت الشوارع قد بدأت تهدأ، واجهات المقاهي تغلق أبوابها، والمارة يتناقصون شيئا فشيئا. أصوات بعيدة تصعد من الحانات الصغيرة، وضوء المصابيح البرتقالية يرسم ظلالا طويلة على الأرصفة الرطبة.
حين وصل إلى الباب الأزرق القديم، تردد. بدا وكأنه مدخل إلى عالم آخر، منفصل عن صخب المدينة. مدّ يده أخيرا، طرق ببطء. فُتح الباب بعد لحظة، بصوت خشبيّ مبحوح، ومن الداخل، جاءت رائحة الكتب القديمة، امتزجت برائحة القهوة وأوراق مكدّسة على رفوف عتيقة.
في الداخل، كان المكان أشبه بمكتبة سرّية، قاعة ذات جدران عالية مغطاة بالكتب، طاولات خشبية تحمل مصابيح صغيرة، ونافذة طويلة تطل على زقاق مظلم. في الزاوية، كان الرجل المثقف يجلس خلف مكتب بسيط، يكتب شيئا في دفتر جلديّ، كأنه كان ينتظره منذ زمن.
رفع رأسه، التقت عيناه بعيني يوسف، وابتسم بهدوء.
— “أخيرا، قررت أن تأتي.”
جلس يوسف قبالته، شعر أن الأسئلة تتلاطم داخله، لكنه لم يعرف من أين يبدأ.
— “لماذا أنا هنا؟”
أغلق الرجل دفتَره ببطء، نظر إليه نظرة طويلة قبل أن يقول:
— “لأنك كنتَ تبحث عن إجابة، ولم تكن مستعدا لها حتى الآن.”
سكت قليلا، ثم أضاف بصوت أكثر عمقا:
— “لكن السؤال الأهم، يا يوسف، ليس لماذا جئت… بل ماذا ستفعل بعدما وصلت؟”
خارج النافذة، كانت بروكسل تتنفس بهدوء، وكأنها تتوقف للحظة، تراقب هذا اللقاء بصمت. في داخله، كان يعلم أن هذه الليلة ستغير شيئا للأبد. لم يكن اللقاء مجرد مصادفة، لم تكن الكلمات مجرد عبارات عابرة. هذه المرة، لم يكن هناك هروب.
ساد الصمت بينهما لحظة، كأن الرجل أراد أن يمنح يوسف مساحة لاستيعاب كل شيء قبل أن يغوص في الأسئلة. في تلك الغرفة العتيقة، شعر يوسف بأن عقارب الزمن تباطأت، وأنه لم يعد مجرد عابر في بروكسل، بل شاهد على لحظة تتجاوز المكان والوقت.
مدّ الرجل يده إلى رفّ خشبي قديم وسحب كتابا بلا عنوان، جلده متآكل، وأوراقه تحمل لون الزمن. وضعه أمام يوسف وقال بصوت هادئ لكنه نافذ:
— “اقرأ.”
تردد يوسف، ثم فتح الصفحة الأولى. لم يجد مقدمة، فقط سطورًا بدأت مباشرة:
“في المدن الغريبة، لا تضيع الأقدام بقدر ما تضيع الأرواح. الغربة ليست بعدًا عن الوطن، بل عن الذات. ثمة من يسير إلى المجهول وهو يعلم أنه لا مفرّ منه، وثمة من يبحث عن شيء لم يعرف بعد أنه يملكه.”
شعر يوسف بتيار بارد يسري في داخله. رفع عينيه إلى الرجل الذي راقبه بصمت، كأنه أراد أن يرى أثر الكلمات عليه.
— “هذا الكتاب…” تلعثم يوسف، ثم سأل: “من كتبه؟”
ابتسم الرجل ابتسامة غامضة، وأشار إلى الكتاب قائلا:
— “ستعرف عندما تنتهي منه.”
حمل يوسف الكتاب كما يحمل المرء سرا لم يُكشف بعد، وخرج إلى الشوارع الباردة. بروكسل كانت هادئة، المطر بدأ يتساقط بخفة، والأضواء تنعكس على الأرصفة المبللة. سار بلا وجهة، لكنه هذه المرة لم يكن ضائعًا.
حين وصل إلى مأواه تحت القنطرة، أشعل المصباح الصغير، وأسند ظهره إلى الجدار الحجري. فتح الكتاب مجددا، وبدأ يقرأ.
كانت الصفحات تمضي به كما لو كانت مرآة تعكس ذاته التي لم يجرؤ على مواجهتها. في كل فقرة، كان يجد نفسه، في كل كلمة، كان يسمع صدى أفكاره التي حاول دفنها. لم يكن الكتاب مجرد كلمات، كان رحلة إلى الداخل، حيث تتكشّف الحقائق بلا أقنعة.
وفي إحدى الصفحات، قرأ:
“حين تجد السؤال الذي تخشاه أكثر من أي شيء، فاعلم أنك اقتربت من الحقيقة.”
رفع نظره عن الكتاب، وأدرك أنه حان الوقت لمواجهة ما هرب منه طوال حياته. ظل يوسف محدقا في الكلمات، كأنها انغرست في روحه. لم يكن مجرد قارئ، بل بدا وكأن الكتاب يقرأه.
المطر في الخارج كان قد ازداد غزارة، يضرب الأرصفة بصوت رتيب، لكن صدى الجملة ظل يتردد داخله:
“حين تجد السؤال الذي تخشاه أكثر من أي شيء، فاعلم أنك اقتربت من الحقيقة.” ما السؤال الذي يخشاه؟
أهو عن سبب غربته؟ أم عن هويته التي تآكلت بين اللغات والثقافات؟ أم عن ذاك الخيط الخفي الذي يربطه بماضٍ لم يعد يعرف إن كان ملكًا له؟
أغلق الكتاب للحظة، تنفس بعمق، ثم عاد إلى الصفحة التالية.
“كل هاربٍ يعتقد أن المسافة ستنجيه، لكنه ينسى أن ما يهرب منه يسكنه.”
ارتجف قلبه. أكان هذا الكتاب يتحدث عنه تحديدا؟ أي عبث هذا الذي يجعله يواجه ذاته في صفحات مجهولة الكاتب؟ شعر بحاجة ملحة إلى العودة إلى ذلك الرجل الغامض، إلى سؤاله، إلى فهم لماذا أعطاه هذا الكتاب بالتحديد.
نهض، دسّ الكتاب في جيبه، واتجه نحو الشارع. كانت بروكسل مبللة، أضواؤها تتراقص فوق برك الماء، والمباني العالية بدت كأنها تراقبه بصمت.
اتجه إلى المنزل ذي الباب الأزرق، حيث التقى بالرجل العجوز الذي أعطاه الكتاب. طرق الباب، انتظر، لكن لا أحد أجابه. أعاد الطرق، ثم تفقد النافذة، فوجدها معتمة تماما.
تراجع قليلا، مترددا بين العودة أو الانتظار. قرر الذهاب إلى المقهى الذي زاره الليلة الماضية، ربما يجد هناك بعض الإجابات.
عندما دخل المقهى، كان فارغا تقريبا. تقدم إلى النادل، وسأله:
— “الرجل العجوز الذي كان هنا أمس… ذو المعطف الطويل، هل تعرفه؟”
نظر إليه النادل باستغراب، ثم قال:
— “أي رجل؟”
— “أنا لا أقصده، أقصد الرجل الذي يعيش في المنزل ذي الباب الأزرق، الذي أعطاني كتابا.”
عقد النادل حاجبيه وقال:
— “ذلك المنزل؟ لكنه مهجور منذ سنوات! لم يعش فيه أحد منذ مدة طويلة.”
تراجع يوسف خطوة، شعر وكأن الأرض تهتز تحته. مستحيل! لقد تحدث معه، لقد لمس الكتاب، لقد شعر بثقل كلماته.
أخرج الكتاب من جيبه بسرعة، وضعه أمام النادل، وقال:
— “هذا! أعطاني هذا الكتاب!”
انحنى النادل قليلا، نظر إلى الغلاف، ثم عقد حاجبيه مرة أخرى وقال:
— “هذا الكتاب بلا عنوان، صفحاته بيضاء!”
تجمد يوسف. خطف الكتاب منه، فتحه بعنف، وقلب الصفحات. لكن ما رآه جعله يختنق برعب صامت. كل الصفحات… فارغة. لا حروف، لا كلمات، لا أثر لأي مما قرأه ليلة أمس.
وقف هناك، مرتجفا، في وسط مقهى بروكسل البارد، وهو يدرك أن السؤال الذي لطالما هرب منه، قد وجد طريقه إليه أخيرا:
“هل أنا من كتب القصة طوال الوقت؟”
Discussion about this post