في حلبجة، الهواء ليس مجرّد هواء.
إنّه ذاكرة مشبعة بالموت،
أنفاسٌ توقّفت في منتصف الطّريق،
وهمسٌ غرق في صدر لم يعد يتنفّس.
إنه بكاء طفلٍ لم يُكمل صرخته الأولى،
وذراعُ أمٍّ ظلّت ممدودةً فوق رضيعها،
كما لو أنّها تحاول أن تحجبه عن الهواء.
في حلبجة، السّماء لم تمطر ماءً،
بل أمطرت موتًا لا يُرى،
موتًا ناعمًا كالرّماد،
يتسلّل إلى الرّئتين كما يتسلّل الحزن إلى القلب،
هادئًا، بلا صوت، بلا صخب، بلا إنذار.
كان الهواء خائنًا،
النّسيم الّذي اعتاد أن يبعثر شعر الصّغار،
صار يدًا خفية تضغط على أعناقهم حتّى آخر شهقة.
في الشّوارع، نامت المدينة دفعةً واحدة،
لم ينهض أحد ليطفئ النّور،
لم يسأل أحدٌ الآخر: هل أنت بخير؟
نام الجميع كأنّهم تواعدوا على الرّحيل في اللحظة نفسها،
ناموا بعيونٍ مفتوحة،
كأنّهم أرادوا أن يشهدوا النّهاية،
لكنّها كانت أسرع منهم.
في حلبجة، حتّى الأشجار كانت ضحيّة،
لم تسقط بفعل العاصفة،
بل ظلّت واقفةً، متيبّسة،
كأنّها تحاول أن تصرخ بما رأته،
لكن الصّمت كان أثقل من قدرتها على الاحتمال.
يُحزنني أنّ ستّة من أصل سبعة
لا يرون الغازات وهي تزحف،
وأنّ السّبعة لا يرون اليد الّتي أطلقتها.
يُحزنني أن المدينة الّتي كانت تضجّ بالحياة،
تحوّلت في لحظةٍ إلى متحفٍ للفاجعة،
أنّ الأبواب ظلّت مواربة،
كما لو أنّ أصحابها سيعودون،
لكنّ أحدًا لم يعد.
وفي المساء، حين تهدأ الأشياء،
حين يظنّ العالم أنّ كلّ شيء قد انتهى،
يبقى الهواء في حلبجة محمّلًا بالذّكرى،
يتمدّد بين الأزقّة ككابوسٍ لا يستيقظ منه أحد،
ويهمس لكلّ من بقي هناك:
أنا هنا… لن أنسى.
حلبجة: المدينة الّتي نامت ولم تستيقظ
عبير البرو
Discussion about this post