يحلّ رمضان هذا العام، كما في كل عام، بروحه النقية ونوره الذي يملأ القلوب قبل أن يضيء البيوت، لكنه يأتي أيضًا كمرآة تعكس آلام أمتنا وواقعها الجريح. إنه شهر الرحمة والمغفرة، لكنه لا يحجب عنا معاناة غزة التي تنزف، ولا يخفف من وجع السودان الغارق في الأزمات، ولا يمسح دموع أمٍّ تفطر وحيدة بعدما غاب عنها الأحبة شهداء، ليصبح الإفطار ذكرى موجعة أكثر من كونه لقاءً عائليًا.
رمضان الذي كان دائمًا موسم التجمعات والفرح، صار عند كثيرين شهر الفقد، حيث يجلس الناجون على موائد تفتقد الأحبة، يستعيدون أصوات من رحلوا، كأنهم لا يزالون هنا رغم الغياب. لكن وسط هذا المشهد الحزين، يبرز نور آخر. هناك في الشمال السوري، حيث يستقبل الناس رمضانهم الأول بعيدًا عن سطوة آل الأسد، تتسلل نسائم الأمل في شوارع لم تعرف الفرح لعقود. إنه رمضان الحرية، رمضان استعادة الحياة، حتى وإن كان ممزوجًا بمرارة الألم. فالأمل لا يولد في النعيم، بل يُصاغ من الدموع، لكنه يبقى حيًا في القلوب التي تأبى الانكسار. إنها بداية جديدة، وإن بدت متعثرة، لكنها تذكرنا بأن الليل مهما طال، سيعقبه فجر.
رمضان هو شهر الرجاء، شهر الدعاء الذي لا ينقطع، وشهر اليقين بأن العتمة لا تدوم، وأن الصابرين على الجراح سيشهدون يومًا نور الخلاص. ففي غزة، حيث الصيام اقترن بالصمود، يرفع الأطفال أكفهم بالدعاء لمن فقدوهم، ولأوطانهم الجريحة. وفي السودان، حيث الألم لم يهدأ، يتقاسم الناس ما تبقى لديهم، ليكون الإفطار ليس مجرد طعام، بل درسًا في الصبر والتكاتف. أما في اليمن، حيث الجوع والحصار، يصبح الماء والتمر نعمة يدركها من حُرم منها.
رمضان يعيدنا إلى جوهر الحياة، إلى الحقيقة التي يطمسها صخب الأيام. فهو ليس فقط وقتًا للطعام والسحور، بل لحظة تأمل وتضرع. لكنه أيضًا اختبار قاسٍ حين نتأمل موائد فارغة، وبيوتًا فقدت أحبابها، وأوطانًا تبحث عن سلامها المفقود. ومع ذلك، يبقى رمضان موسم الأمل، وشهر الرجاء الذي لا ينقطع، وبشارة بأن بعد كل ليل طويل، سيأتي فجر جديد.
سلامٌ لغزة الصامدة رغم الجراح، وسلامٌ للسودان وهو يبحث عن طريقه وسط الركام، وسلامٌ لسوريا التي تكتب صفحة جديدة في تاريخها، وسلامٌ لكل من جعل من رمضان جسرًا نحو رحمة الله ونور الأمل.
بقلم حجاج أول عويشة الجزائر
Discussion about this post