لله الأمر
الفائزة بالمركز الأول
بقلم/ روضة بوسليمي
فقدت حماسةً رافقتها عقودا كلّما أزف
موعد سفرها إلى بيت أهلها من العاصمة
إلى إحدى مدن الشّمال الخصيب في العطل والمناسبات …
لا شيء بقي لها هناك غير جدران تبكي أصحابها ، وبابٍ يُسمع نحيبه
من بعيد ، وذكرى في كلّ ركن تعوّدت استحضار تفاصيل حكايات مرّت بمرّها وحلوها .
لا شيء يظلّ على حاله وعقارب السّاعة في سباق محموم إلى خطّ وصول مازال في علم الغيب ….
رحل من كانت تتلهّف للارتماء في حضنيهما تسترجع الأيام الخوالي ، كما لو كانت ما تزال تلك الطّفلة ذات الضّفيرتين المنسدلتين على كتفيها لا يشغلها أمر من أمور الدّنيا …
غاب من كانت تحنّ إلى لقائهما لا تبتغي سوى رضاهما ، رحل من كانت لا تتردّد لحظة في برّهما …
محزن حقّا ، حين تذهب بهجة المناسبات والأعياد مع من ذهبوا بلا رجعة ولا يشاركك الكون إحساسك بالفقد ، محزن
جدّا أن تستوي الأيّام والفصول وتمسي بلا طعم ،بلا لون ،
بلا حلم …
أمست تتمنّى ، وما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه لو كانت تمتهن مهنة أخرى غير التّدريس ،فلا تضطرّ إلى أن تعيش تلك اللّحظات المستعارة من الجحيم .
تكدّست في صدرها أوجاع لئيمة قصمت ظهرها حتّى كادت تكتم أنفاسها …
لا يد حنون تربّت على كتفها ، لا أحد يحمل عنها أعباء ليست بالهيّنة ولا رفيق يشاركها قساوة أيّام ازادت رتابتها وبرودتها …
ربّاه…!!! لمن تفضي بسرّها في هدأة اللّيل الأمين ؟ ولمن
تشكو ضيم الزّمن والكلّ نيام !؟
وقد لبّت أمّها نداء ربّها والتحقت بالرّفيق الأعلى تاركة إيّاها في مهبّ يُتمٍ مدقعٍ ووحشةٍ غرزت في الرّوح أنيابها عميقا ما انفكّا يتقاذفانها كما تتقاذف ريح الخريف أوراقا استُنزِفت خضرتها ، تشبّعت بؤسا وملئت اصفرارا وشحوبا …
ساق القدر تلك الهائمة على وجهها إلى رفوف مكتبتها تبحث عن قصّة كانت قد شرعت في قراءتها منذ زمن ليس بالقصير،
إلا أنّ ظرفا صحّيا قاسيا ألمّ بها حال دون مواصلة تلك المتعة الفريدة لديها .
وما إن تصفّحت القصّة حتّى وقعت بين يديها صورة
شمسيّة جمعتها ذات عيد بأختيها تتوسطهنّ –الحاجّة –في صحن البيت
وهي بكامل وقارها …
سافرت طوعا وكرها إلى ذكريات عاشت تفاصيلها والأنس يزيّن محيّاها لمّا كان القمر على يمينها والشّمس على يسارها …
بينما خضّبت دموع حارقة كأنّها من حمم ما تدلّى من غطاء رأسها وصدى كلمات يتقاطرن محبّة وعطفا يُبعثن من مرقدهنّ بعد أن أودعتهنّ خزينة الذّاكرة..!!
أحسّت بتلك الخطوات الباردة
تلاحقها أينما كانت تقترب منها
كالعادة ، فتحاملت على نفسها مستغفرة مسترجعة داعية لأمّها بالرّحمة دون أن تنسى إعادة
الصّورة بين جنبَي القصّة
وقد عدلت مضطرّة عن فكرة المطالعة و تبخّرت رغبتها في مراوغة أرق جاحد يأبى تركها كما تركها الأحبّة و أسئلة تطوف برأسها الضّاجة و عادت إلى غرفتها واجمة تجرّ جسدها جرّا .
…تكوّرت تحت دثارها مستسلمة إلى كوابيس ليلة أخرى تتربّص بها كما تستسلم أشرعةُ سفينة طاعنة في العطب إلى أقدارها وهي تردّد بكلّ هدوئها المعهود :
— لم تبكِ يا قلب !! وأنت
تدرك أن خلق الله مجموعون ليوم معلوم وأنّنا جميعا ميّتون .
تكرّر تقلّبها على شقّيها متحسّرةً حسرةَ مخذولٍ من قريب طعن في الظّهر … وذاك الوجع الدّفين
يحمّص أنينها ، يغتال فرص الفرح الممكنة في رحم القادم .
يطبق عليها ضعف تستّر بقناع الصّمت ثمّ تهاجمها من جديد نزعة خجولة للتّمرّد ..
فتسري قشعريرة في جسدها المنهك تزيد من وطأة أرق مزمن
تلبّسها …
ربّاه …!!! يا ملاذ روح خائفة وحيدة غريبة … ايّ ملجإ آمن لمظلوم لا يعرف جرمه وإن حاول ألف مرّة … ؟!
أيّ مُخرج صدق لمن حُرقت سفنه عمدا و أحاط به شرّ دبّرته نفس مهزوزة باللّيل
والنّهار ؟!
تتنهّد تنهيدة طويلة وصدى حديثها
إلى أمّها يملأ فراغات سحيقة عجزت عن ردمها … تنظر إلى سقف غرفتها كمن يبحث عن شيء مّا يفتقده بفداحة …
تعدّل وسادتها قبل أن تشرد في اللاّمكان ما شاء لها …ثمّ تعود
بلا أجوبة لنفس تلحّ عليها صباح مساء ؛ أن لا تقبعي في الظّلّ وأدركي ما نجا منك ..
كوني لطفلة مازالت تسكنك وطنا …
صدقا ،وحدها الأمّ لا تخون… وحدها الأمّ لا تتنكّر لأكبادها .
( روضة بوسليمي) / تونس
Discussion about this post