تيه
كان يومًا يبدو عاديًا، لكنه كان يحمل بين طياته مفاجأة غير متوقعة. الشمس ألقت بوهجها على المدينة التي لطالما زرتها في أيّام عُطَلي، تلك المدينة التي بدت لي دائمًا مألوفة، تحفظني وأحفظها. أوقفت سيارتي في زقاق هادئ، مطمئنة إلى أنني سأجدها بسهولة حين أعود، وشرعت مع أختي في جولة خفيفة؛ نتسوق، نتبادل الأحاديث، ونستلقي على مقاعد أحد المقاهي نشاهد زحمة الشوارع من بعيد.
مرت ساعات ممتعة، حتى قررنا العودة إلى السيارة. كل شيء بدا طبيعيًا، حتى تلك اللحظة التي أدركت فيها أن خطواتي لم تعد تعرف الطريق. خانتني الذاكرة. الزقاق الذي كان واضحًا كصفحة مفتوحة في الصباح، انقلب إلى لغزٍ محيرٍ الآن. بدأتُ أنا وأختي نتجول بين الشوارع كمن يبحث عن خيط في متاهة.
“أين أوقفنا السيارة؟” سألت نفسي مرارًا، لكن الإجابة لم تأتِ. بدأت قدماي تشعران بثقل غير مألوف، وكل شارع أعبره بدا وكأنه يعيدني إلى نقطة البداية. المدينة التي كنت أظنها مألوفة كشفت عن وجه آخر غريب، وجه يلفني بالحيرة والإنهاك.
حين شعرتُ أن التيه بدأ يأخذ منا وقتًا أكثر مما ينبغي، اتفقتُ مع أختي على أن نفترق. هي ستبحث من طريق، وأنا من طريق آخر. بدا الأمر منطقيًا، لكن داخلي كان يموج بمشاعر متناقضة: هل كنا على صواب أم أننا نزيد من احتمالات الضياع؟
انطلقتُ بمفردي، خطواتي ثقيلة وعقلي مشوش. الشوارع أخذت تلتف حولي كأنها تخبئ الحل عن عمد، وأنا أسأل نفسي مرارًا: كيف فقدت طريقًا أعرفه؟ كيف خانتني ذاكرة اعتدت الوثوق بها؟ رغم التعب، حاولت التركيز أكثر، التمعن في التفاصيل، لكن كل شيء بدا متشابهًا، كأنني أسير في دائرة مغلقة.
وفي لحظة من الإنهاك والتأمل، وقع بصري أخيرًا على السيارة. كانت تقف بسلام في زقاق مررت بجانبه مرات عديدة، لكنني لم أره. وبينما كنت أقترب منها بشعور من الراحة الممزوجة بالدهشة، ظهرت أختي من الجهة الأخرى، نظراتها مليئة بالمفاجأة نفسها.
التقينا أمام السيارة، كأن القدر أعاد جمعنا في هذه النقطة، بعد أن سلكنا طرقًا مختلفة تمامًا. تبادلنا الضحكات المرهقة، ثم نظرات عميقة، وكأن اللحظة تحمل في طياتها أكثر من مجرد العثور على سيارة ضائعة.
في تلك اللحظة، أدركت أن ما حدث لم يكن مجرد ضياع. كان اختبارًا صغيرًا من الحياة، ليذكرنا أن الخطوات قد تضل أحيانًا، لكننا نجد الطريق حين نتوقف لنتأمل ونرتب أفكارنا. كما أدركت أن الاختلاف في الطرق لا يفسد الحكمة، وأن الصدف التي تجمعنا قد تكون أجمل من أي تخطيط.
ربما، في النهاية، ما أضعناه لم يكن المكان، بل لحظة تركيز فقط. وحين تمالكتنا هذه اللحظة، وجدنا أنفسنا مجددًا، لنضحك على غرابة ما حدث، ونحمل معنا درسًا صغيرًا: أحيانًا، الحياة تضعنا في اختبارات صغيرة لنتعلم فيها الصبر واليقين.
ربيعة بوزناد
Discussion about this post