غريبان
بقلم/ أحمد الخميسى
تجمد فى مكانه حين رآها. لم يكن ليتخيل أنها قد تظهر له هكذا ببساطة، واقفة فى سوبر ماركت، بدا له أن ظهورها المفاجئ مثل لون انزلق من السماء إلى الأرض، فى غير مكانه أو زمانه. ولم يكن يدرى، قبل أن يراها الآن، فى هذه اللحظة، أن عينيها واسعتان تشعان بالحنان والتوسل الوديع، ولا أنها تتفادى ما حولها بحذر واحتراس مثل رسالة مغلقة لا ينبغى أن تصل لأحد.
هى؛ نعم هى؛ التى طالما فتش عنها، كأن حياته كلها كانت سيراً بدون وعي إليها، يمشى نحوها ولا يدرى من تكون.
كان يقول لنفسه إنه سيعرف ما يفتش عنه حين يراها أمامه. تأملها، حدق بها، واقفة تتطلع إلى زجاجات عطر فى فستان صيفى يهفهف مثل ريشة رقيقة، وقد أحاطت صدرها بساعدين مضمومين، ربتت بمنديل على زاوية فمها، ثم استدارت بجنبها وهبطت بيديها إلى عربة التسوق الصغيرة ومضت للأمام.
مشى خلفها وحافظ على مسافة بينهما. كانت تسير وهى تحمى عالمها الخاص من الظهور. راحت تتنقل بين أقسام سوبر ماركت كأنها تدق بقدميها نغمة على الأرض، تلكأ بالقرب منها فى ركن العصائر، تناول زجاجة جوافة متظاهراً بأنه يفحص تاريخ صلاحيتها. وضعها بين مشترياته. راح يتملى وجهها المنحوت بدقة، ويتوه فيه.
هى؛ نعم هى؛ وقد ظهرت له الآن ولن تلوح له بعد ذلك أبدا.
هى أيضا أحست وجوده المتوقد كما يشعر الغصن بدفء الجو، أحست بخطواته التى تتبعها، بتنهده المكتوم، بنظرته التى نفذت إليها فاخترقتها وارتفعت بها وهوت ترج كل ما فيها.
انعطفت إلى قسم الحلويات لتهرب من حضوره المفاجئ فى شعورها. دار فستانها حول ساقيها دورة، وصارت تطلق أنفاسها بحساب وتمد يدها إلى الأرفف محاذرة أن ينثنى عودها فيبرز منها شىء، ثم تساءلت: «لماذا أتجنبه؟ أم لعلنى بحاجة إلى وقت لكى أعتاد حضوره؟». أبطأت خطواتها شاردة أمام صناديق الفاكهة، وتوقف هو بالقرب منها. ولم يكن من أحد سواهما الآن فى مساحة صغيرة، يفصل بينهما متران لا أكثر. راقبها وهى تنحنى لتجذب ربطة برتقال، وارتبكت، وكادت الربطة أن تفلت من بين أصابعها. قال لنفسه بأمل: «هل تلتفت إليه وتمنحه النظرة التى فتش عنها فى مئات العيون ليعرف كيف تكون؟». أحست به الآن بقوة، فلم تستطع أن تكبح نفسها أكثر مما فعلت، فالتفتت إليه خطفاً، ووجدت فى عينيه النظرة التى لم ترها فى آلاف النظرات المنفلتة من كيمياء الروح والعقل. وطرأ لهما بكلمات مختلفة أن تلك اللحظة تشبه الأبد، تشبه ما قبل ذلك، وما بعد ذلك، مضت نحو خزانة الحساب بعربة التسوق، وقف خلفها، رفعت بكلتا يديها شعرها المنسدل إلى الخلف ترتبه، أخرجت النقود من حقيبة يدها، سبح ما بينهما شعور هشمه الارتباك، وبدا لهما فى اللحظة ذاتها أن عاطفة فى الجو تهيمن على عاطفة، تنزلق إليها، تنسل منها، وتعود تحكم كل شىء. استدارت نحوه، أمعنت النظر إليه مأخوذا بوجهها الذى تجلى، وبالعينين المشعتين بالحنان والتوسل الوديع، بينما استقرت عيناها عند ارتجافة شفتيه التى سرت إلى عنقها وجلدها تجتاح كل شىء.
لحظة واحدة ثبت كل منهما بصره فى الآخر، وأحسا بحرارة الحريق الذى نادراً ما يندلع.
عادت ببصرها إلى المحاسب تتسلم منه بقية النقود. جمعت ما تسوقته فى كيس وقبضت عليه بيدها اليسرى، تحركت صوب باب المحل، هبطت الدرجات الثلاث التى تفصل عتبة المحل عن الرصيف، هبطت ببطء وهى تحصن نفسها بصورة المرأة القوية التى لم يرهقها حنين، فتحت باب السيارة، دخلت وجلست أمام المقود، رفعت بصرها إلى عتبة المحل، إنه مازال واقفا هناك عند أعلى درجة، يرمقها بعين تتشبث بالأمل، غطت وجهها بكفيها، شعرت بأنفاسها تتردد دافئة بين كفيها وعينيها؛ تساءلت:” ألم يعتصرنا الحب حتى النهاية؟ فلمَ نقف متباعدين كأننا غريبان؟”. وارتجت في جلستها ثم أجهشت بالبكاء.
للكاتب المصري/ أحمد الخميسي
Discussion about this post