قصة_قصيرة
،،،،،،،، تحت شمس الوجع ،،،،،،،
كان النهار في بداياته، والهواء يحمل آخر نسائم الصباح قبل أن تتحول إلى حر خانق تحت شمس الصيف القاسية. وقف هشام عند زاوية أحد الأزقة في حي “لبراريك”، يلوح بعصاه الخشبية بانتظار صديقيه كريم وسعيد. تأخر الاثنان كعادتهما، فبدأ القلق يساوره. لم يكن هذا الانتظار جديدا، لكنه يحمل معه كل صباح هاجسا مختلفا.
وصل كريم أخيرا، يلهث، يحمل كيسا بلاستيكيا ممزقا. بعده ظهر سعيد بخطى متثاقلة. لم يبدُ أن أيا منهما في مزاج للحديث. ومع ذلك، بادر هشام قائلا بصوت يحمل مزيجا من الغضب والإلحاح: أين كنتما؟ تأخرنا كالعادة.
رد كريم بابتسامة خفيفة: الطريق لم يكن سهلا اليوم. وجدنا رجلا يبحث في المكب أيضا. يبدو أننا سنتسابق معه.
هز هشام رأسه بضيق وقال: لا يهم، فلننطلق الآن قبل أن تشتد الشمس أكثر.
سار الثلاثة نحو مكب النفايات الكبير، حيث اعتادوا قضاء يومهم في التنقيب بين أكوام القمامة. المشهد هناك كان كابوسيا؛ أكوام هائلة من القمامة المتناثرة، تحيطها أسراب من الغربان التي تتنازع على بقايا الطعام. الرائحة الكريهة كانت تحاصر أنفاسهم، لكنها لم تعد تزعجهم كما كانت في البداية.
بدأ هشام بنبش أول كومة بصمت، بينما قال سعيد بسخرية: ربما سنجد كنزا مدفونا اليوم.
رد كريم: لو وجد كنز، لما بقي لنا. هذا المكان مخصص للأشياء التي لم تعد تعني لأحد شيئا، تماما مثلنا.
غرق هشام في العمل، لكنه لم يستطع منع أفكاره من التحليق بعيدا. “أتذكر عندما كان والدي يقول لي إن المدرسة ليست لنا؟ قال إننا خلقنا لنتعلم من الحياة مباشرة، لا من الكتب. لكن أي حياة هذه التي نتعلم منها؟ حياتنا كلها أكوام قمامة. أليس لنا حق في شيء أجمل؟”
استمر الأطفال الثلاثة في التنقيب وسط أكوام القاذورات، أياديهم الصغيرة تتسخ أكثر مع كل حركة. كانوا يبحثون عن أي شيء يمكن بيعه. علب معدنية، قطع بلاستيكية، أي شيء قد يعيد لهم بعض الدراهم التي تساعدهم في توفير الحاجيات البسيطة التي يحتاجونها.
عندما مالت الشمس نحو كبد السماء، وجد كريم صندوقا خشبيا صغيرا مدفونا تحت كومة من البلاستيك. صرخ بحماس: انظروا! قد يكون هذا كنزنا المنتظر!
تجمع الثلاثة حول الصندوق، فتحوه بأيد مرتجفة، ليكتشفوا أنه فارغ. مجرد قطعة خشب مهملة.
ضحك سعيد بمرارة وقال: حتى الكنز فارغ، مثل أحلامنا تماما.
كان الإحباط واضحا في عيونهم، لكنهم لم يتوقفوا عن البحث. استمروا حتى المساء، عندما بدأت أشعة الشمس تتلاشى تدريجيا، وحل محلها ضوء خافت من السماء الملبدة بالدخان المتصاعد من المكب.
عادوا إلى حيهم محملين بما جاد عليهم المكب من خردة وأشياء بالية. كانوا متعبين، لكن الحديث بينهم ظل يحمل شظايا من الأمل.
قال سعيد: هل تعتقدون أن الغد سيكون أفضل؟
أجاب هشام: لا أعلم، لكني سأبحث عن فرصة أخرى. ربما يأتي يوم أترك فيه هذا المكان.
توقف هشام للحظة، نظر إلى صديقيه وقال بصوت مرتجف: لكن حتى لو رحلت، لن أنسى. نحن هنا لأن لا أحد ينظر إلينا. نحن منسيون، حتى من أحلامنا.
واصلوا سيرهم نحو بيوتهم الصغيرة، تتبعهم ظلالهم المتعبة على الأرصفة المتشققة، ليبدأ يوم جديد في الغد، بين أكوام القمامة وأحلام طفولة لا تزال تدفن معها كل يوم.
-✍️ بقلم: سعاد يعكوبي
Discussion about this post