ليلى عبدلاوي
أوراق
(قصة قصيرة)
يئس من أن تبتسم له الحياة يومًا، ما كان سيغادر البيت في هذا الجو القاتم ، ضيق في النفس مريع، يداه ترتجفان، الرياح تلفح وجهه وعنقه في قسوة، لعن حظه وهو يتذكر ما آل اليه اصدقاؤه القدامى من جاه وسيادة ومنصب، لكنه اعترف بينه وبين نفسه كيف كانوا يسهرون الليالي في التحصيل في الوقت الذي كان فيه يصول ويجول مزهوًا بمراهقة خالية من أي حسيب أو رقيب، بعدما توفي والده تاركًا مصيره لأم مريضة لا حول لها ولا قوة…
حياته دروب متشعبة شائكة، لكن المتاهات العادية لا توصل في نهاياتها إلى أي مكان..
تراءى له جاره عباس يسير في الاتجاه المعاكس، شخص نكود كثير الشكوى. سيوقفه ليقاسمه هموما هو في غنى عنها، يحاصره التعب بمجرد تخيل الامر، مرق بسرعة من عطفة على اليمين. سيمشي مسافة أطول لكنه سيتفادى موجات طاقة سوداء.
عتمة ،نفق لا نهاية له ،ما عادت الدنيا تصفو لأحد ، أمواج عاتية،آعصارلا يدع مجالا للنجاة.
هكذا كانت نفسه تحدثه وهو يسير باتجاه محطة الترام، أيام متشابهة، ونمط من عيش يتكرر؛ استيقاظ من النوم على صوت منبه كريه المنظر والصوت، سنوات طويلة لم يعرف فيها راتبه زيادة تذكر،وينفلق الصبح بين الفين والاخر عن خبر ارتقاء فلان أو فلانة تليه همسات لا يستوعب معناها الخفي تتردد بين المكاتب.
هندام مقبول،شقة اقتناها على حساب ضرورات أخرى،ألم في الأمعاء يتجاهله كارها ماراطون المستشفيات.
أحس بذبذبة في عينيه، مد يديه آليا ماسحا نظارتيه القديمتين، آلمت حواسه رائحة طعام منبعثة من مطعم فاخر. المعالم مألوفة لدرجة الغياب، ضباب كثيف يغلف الواجهات والوجوه، أناس تماثيل نكراء تتحرك، تزداد شحوبًا كل يوم تحت نور الشمس.
قادته قدماه في الترام إلى مكانه المعهود قرب النافذة، أغمض عينيه مليًا، تخيل يوما طويلا عريضا داخل مكتب مهترئ الجدران، بالي الأرضية والسقوف، زكمت أنفه رائحة الرطوبة والسجائر الرخيصة..وجوه ثقال الظل، ثرثر،.تفاهات، يارب رحمتك! فتح عينيه ، سربٌ الفتيات يتوجهن الى معاهدهن، بملابس ضيقة و وجوه تعلوها الأصباغ، أجساد تتمايل برشاقة، غالب شبه ابتسامة، وتنفس طويلا.
– تذاكر، تذاكر!!!
الساعي يقترب ، لايدري لماذا يثير هذا الرجل حنقه كلما يراه، مد يده إليه بالتذكرة مشيحًا بوجهه نحو النافذة،انشغل بمشاهدة واجهات المتاجر ريثما يكمل الساعي عمله الروتيني.
لفت نظره فجأة سقوط أوراق من ظرف كبيرانفتح فجأة،كانت وثائق طبية من مختلف الأحجام، وبعفوية انحنى ليجمعها ويقدمها للمرأة الجالسة قبالته، أخذتها منه وقالت في خفر:
-شكرًا سيدي، لقد أتعبتك.
التقت عيناهما لحظة، تجمد في مكانه، أيعقلُ هذا؟
لم تكن سواها، إنها هي دنيا، حبُّهُ القديم الذي طالما ناضل من أجله لكن موت أبيه، جعل والدها يحرمه منها ويزوجها لابن عمها الثري، تناهت إلى مسامعه بعد ذلك أخبار عن طلاقها، ثم زواجها بمهندس من نفس عائلتها إلى أن انقطعت عنه أخبارها تمامًا.
“تغيرتِ كثيرًا يا دنيا، الثوب الداكن لم يفلح في تغطيه هذا الكم الهائل من الدهون، والوشاح الأسود على رأسك سمح لخصلات بيضاء أن تظهر، كل شيء فيك قد ذبل، إلا نظرة عينيك، هي نفسها تلك التي بقيت راسخةً في ذاكرتي طيلة هذه السنين”
كان طول الطريق، يسترق النظر الى وجهها ويديها، لم يبدُ عليها أنها عرفته أو حتى ذكرها بشيء، كانت شاردة، تنظر إلى لاشيء، خُيل إليه أن في مقلتيها نهرًا من الدموع تقاوم انهماره.
توقف الترام، نزلت المرأة بتثاقل وبطء دون أن ترفع عينيها إليه..
لمح في أعلى الجدار الأيمن للرصيف لافتة بخط أسود هائل(دار الشفاء لسرطان الاطفال).
وعند باب العمارة والحافلة تفرغ حمولتها،.التفتت اليه.،التقت عيناهما،لمح في مقلتيها دمعتين كبيرتين تترقرقان.
Discussion about this post