في صباحٍ هادئ، حيث كانت الشمس تبعث بأشعتها الذهبية لتدغدغ سطح الأرض بلطف، جلست عصفورة صغيرة على غصن شجرة بجانب نهرٍ عذب. كانت تلك العصفورة مميزة، ليست كغيرها من العصافير؛ فقد ولدت دون صوت. في كل مرة حاولت أن تغرد كباقي العصافير، كان يصيبها اليأس لأن صوتها لم يكن يخرج، فقط صمت بارد يرافق كل محاولاتها.
كانت العصفورة تحلم دومًا بأن تمتلك صوتًا، صوتًا يملأ الفضاء بالنغمات الحلوة، صوتًا يجعلها تشعر أنها حقًا جزء من هذا العالم الموسيقي. وفي إحدى الأيام، بعدما غمرها اليأس أكثر من أي وقت مضى، قررت أن تقترب من النهر. رأت في الماء مرآة لنفسها، وتأملت صورتها المنعكسة، تمنت أن تستطيع أن تغني، أن تشارك في نشيد الحياة.
اقتربت أكثر من الماء، فلامس قدماها الرقيقتان سطحه بهدوء. شعرت العصفورة فجأة بنبضةٍ من الأمل داخل قلبها. فتحت منقارها محاولًة التغريد، ولكن، كالعادة، لم يخرج منها سوى الصمت. عندها همست للنهر، همسًا ناعمًا كنسيم الصباح: “أريد أن أغني، ولكن لا أستطيع. هل يمكنك مساعدتي؟”
النهر، بحكمته الأزلية وحنانه الذي لا ينضب، أجابها بصوت خفيف كخرير مياهه: “لا تخافي، أيتها العصفورة البكماء. لتغني، لا تحتاجين إلى صوتٍ كالعصافير الأخرى. اصنعي نشيدك الخاص، وكوني النغمة التي تبحثين عنها.”
تفاجأت العصفورة من كلام النهر، ولكنها لم تفهم ما يعنيه تمامًا. فقالت بتردد: “لكن، كيف يمكنني أن أكون النغمة؟”
ابتسم النهر، وقال: “الصوت ليس فقط ما يخرج من الفم، بل هو ما ينبع من أعماق الروح. افتحي قلبك، وتأملي ما حولك. اسمعي الرياح وهي ترقص، والأوراق وهي تهمس، والماء وهو يغني. حينها ستجدين صوتك الحقيقي.”
فجأة، شعرت العصفورة بأن شيئًا غير عادي يحدث. بدأت تستمع بعمق لكل ما يحيط بها؛ خرير الماء، همسات الرياح، أوراق الأشجار وهي تتراقص على أنغام الطبيعة. وكلما أصغت أكثر، أحست بأن قلبها يمتلئ بنغمات جديدة، نغمات لم تسمعها من قبل.
ثم، وببطء، فتحت العصفورة منقارها مرة أخرى. هذه المرة، لم تحاول تقليد أصوات العصافير الأخرى، بل سمحت لنغمات قلبها بالخروج كما هي. وها هو صوتها أخيرًا يخرج، ناعمًا، رقيقًا، لكنه مليء بالدفء والشغف. لم يكن مثل باقي العصافير، كان صوتًا فريدًا، ينبع من عمق روحها.
غنت العصفورة، وغنت، وملأ صوتها الفضاء بألحان عذبة. أدركت في تلك اللحظة أن صوتها لم يكن مفقودًا، بل كان مختبئًا داخلها، ينتظر اللحظة المناسبة ليخرج.
منذ ذلك اليوم، أصبح صوت العصفورة يتردد في الأرجاء، نشيدًا مميزًا لا يشبه غيره. كانت تغني كل صباح بجانب النهر، وتشارك الطبيعة بأسرارها العذبة. أدركت العصفورة أخيرًا أن الصوت لا يأتي من الحبال الصوتية فقط، بل من القلب، من الحب، ومن الإيمان بنفسها.
بقلم ربيعة بوزناد
Discussion about this post