الإنسان في شعر أبي تمّام . الجزء الرابع.
إنسانُ التّجدُّد .
في اللّوحات الثلاث السابقة التي صوّرنا فيها إنسان أبي تمّام ،عرفْناأنّ الشّاعرَالعبّاسيَّ كانَ يسألُ عن إنسانٍ متجدّدٍيذكي فيه طموحَه ويكون له نافذة على المثل الأعلى ، فهو إنسان الدهر الذي لا يستقر في مكان ليطلع كلّ يومٍ كالشمس ، يصاحب العلم ويغارعليه.. وتأتي اللوحة الرابعةلتكتمل صورة الإنسان الذي يطمح أن يكونه أبو تمّام وذلك في قوله:
” ولم تعطني الأيّامُ يومًا مسكّنًا
ألـذُّ بـه إلّا بـنـومٍ مـشرّدِ
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مخلقٌ
لديباجتِيْهِ . فاغتربْ تتجدَّدِ
فإنّي رأيتُ الشّمس زيدتْ محبّةً
إلى النّاسِ أن ليست عليهم بسرمد”.
ديوان أبي تمّام ، ص80.
” اغتربْ تتجدّدِ”. ها هويتفلّتُ من غواية الرّكودِ القاتلِ، ويستقبلُ رياحَ الإغتراب المجدّدة .
أمّا الأبياتُ فهي من البحر الطّويل، وقد تقدّم معناه، وأمّا الرّويُّ فهو حرف الدّال وهو حرف يدلُ على التّصلُّبِ وعلى التّغيُّرِ المتوزّع. ( تهذيب المقدّمة اللّغويّةللعلايلي ص63. وقد تقدّم أيضًا شرح دلالة الكسر في الرّويّ.
يكادُ حرفُ الرّويّ يبوح بالحكايةِ كلّها ” التّصلّب والتّغيُّر المتوزّع” . فهذان هما إيقاع الأبيات ونغمها .التّصلُّبُ في الموقف إيقاعُ إيمانٍ عميق بالتّجدّدِ، والتغيّرنغمٌ يتوزّعُ في الحركة الساعية على خطوط المكان وساعات الزمان . يراجع في هذا الشّأن كتاب الدكتور أسعد علي ” الإنسان والتّاريخ في شعر أبي تمّام . ص70.”
في ديوانه يقول أبو تمّام :
” بصرتُ بالرّاحة الكبرى فلم ترها
تُنالُ إلا على جسرٍ من التّعبِ . ”
فها هو الشّاعرلا يلذ له النّوم إلّا في أن يشرّد زمانه ومنامه، فلا سكنَ في غير ذلك ، وتراه لا يطمئنّ للرّاحةِ بالرّاحة بل هي تأتي له بالتعب حيث تتمزق ديباجتاه والدّيباجة تعني الخدّ أو الوجهَ عمومًا، وصونها كناية عن شرف النفس ،وبذلها كناية عن الدناءة . بناء على هذه الخقائق الثابتة يكتشف الشاعر أنّ التّجدُّد َ هو في الإغتراب . أمّا برهانُهُ الطّبيعي والظّاهرُ على صحّة ما يدّعيه غهو الشمسُ التي في غروبها وشروقهاتبقي الكون جديدًا، وتظلُّ محبوبةً لأنها لا تدوم على حال واحد ، بل تتطوّر. وهذا المثال يريحُ فكرَ الشّاعر ويدفعه للإغترابِ ليجدّد وجهيه المادّي بالغنى والمعنويّ بالعلم .وهذه الشمس عادلة في شروقها وغروبها تمنح الجميع ضياءً وعطاءً ، لا تميّز بين سهول وجبال، بين بحر ويابسة . لذلك كانت عند أبي تمّام رمزًا يلهمُهُ ويحرّكه، فهو يريد الإنسان على غرار الشمسِ دائمَ الشُّروقِ والتّجدُّدِ،لا يجمد على وضعٍ تقليديٍ واحدٍ، بل يريده صلب النّزوع إلى التّجدُّد، واجتهادًايقتنص الغنى ، وعقلًا يعطي المعرفة..
إعداد عبد الله سكريّة.
Discussion about this post