( بقلم أحلام الهاشمي فتيتة)
تَخلّصْ من رواسب ما قرأتَ و ما علق بذهنك من صور و معان من مشاعر و أحاسيس تفرّغ بخيالك و قلبك و جوارحك و استعدّ لامتلاء جديد و تحليق في سماء الضوء و أنت تتصفح مجموعة شعرية مميزة، أنّها المجموعة الشعرية “إشراقات من حياة أخرى ” للمبدع المغربي المتنوّع شعرا و أدبا و موسيقى و أداء غنائيا و ترجمة الدكتور نور الدين ضرار، مجموعة تستثير لديك لاقطات المعنى و الجمال لتصعد معها درج الماء و لتفتح عينيك بوابتين على حياة متدفقة بالأمل … أمل يتحدّى المعاناة ،أمل من النوع الذي لا يقبل الخذلان و لا التراجع …
على عتبتها الأولى عنوانها “إشراقات من حياة أخرى ” عنوان مشرق بإيحاءاته التي تحيلك إلى حياة أكثر من حياة تزجّ بك إلى رحابة التأويل و تقيم بكامل ثقلها لتفتح لك الباب على قصائد نورانية مكثفة الترميز بدءا بعناوينها إلى دلالاتها و موسيقاها إلى حقلها اللغوي إلى جمالية الصور الشعرية ألخ ….
قصائد سبعة تطوف معها حول الجمال في عالم متصل بين الأرض و السماء ، بين الأمل و الخلاص من أوجاع الحياة:
* موجة بأديم اليابسة .
* شاهدة على ساحل القيامة .
* إشراقات من حياة واردة.
* ألواح بيد الفراغ.
* لا امرأة تحبّني .
* تقرير سيكوباثي لرجل في عزلته المريبة .
* من مسودّات نزيل الغرفة 21 .
لقد اختار مبدعنا لمجموعته التّحرّر من حدود التقديم المعتاد للكتب ليوشّح صفحتها الأولى بمناجاة للربّ و ثناء على جماله و تأكيد على الرّابطة القويّة التي تشدّه إليه في صورة انتماء نوراني يجعله يتماهى ظلاّ ضوئيا صغيرا لإلاه ضوئي كبير أمام ثنائية الأمكنة و العوالم
” الهنا و الهناك ” ،عالم المادة و عالم الضوء ،عالم الناسوت وعالم اللاهوت ….
” يا أيها الرّبّ الجميل
حتما هنا أو هناك
سيظل كل فجر في ربوعي قبسا
من شموسك المشرقة ”
أمّا الاستهلال الأول فهو نصّ على شاكلة ومضة تحمل فلسفة تجمع بين ما هو صوفي و ما هو اجتماعي دافع فيها الشاعر عن تمسّكه بالحياة في تحدّ للمعاناة و ما مرّ به من وعكة صحية انتصر فيها عبر درجة عالية من السلام الداخلي و التصالح مع الوجع و هو ما عبّر عنه مبدعنا بالتطبيع مع الألم الذي يشدّه إلى الحياة في قوله:
” التطبيع الذي يبقيه على قيد الحياة ”
و ما إن تضع يدك على حلقة باب القصائد حتى تغمرك القصيدة الأولى بغواية روحية تنشر خطابها للرّحاب و للوفاء و للأطيار كبطاقةَ عبور للبقاء و شهادة إقامة بالخلود الذي لا ينتهي… لتتكون منها “موجة بأديم اليابسة “في تماهي معنى الماء و التراب و امتزاجهما في جسد المعنى بل في معنى الجسد الإنساني …
القصيدة الثانية
” شاهدة على ساحل القيامة ”
مركب يبحر خارج الزمان و المكان و الضجيج بعيدا عن حياة البشر في خلوة بالذات لتكسر قيود الظلام و المحسوس لإعادة الحياة ليد الإنسان التي تصنع المادي و تكتب المعنى و تتحدّى الفراغ … رحلة تنتهي بالالتحام الروحي مع معنى الإلاه في الذات لتكسر المسافات و الحواجز و المخاوف …
” أيها الرب الجميل
حمدا لجنابك العظيم
على هذه الفسحة الهادئة
ها أنت أخيرا اسمي الوحيد
بلائحة الأصدقاء
وحيدا تبقى الأقرب إليّ
وحيدا أبقى الأقرب أليك
وحيدين نبقى معا ”
أمّا قصيدة ” إشراقات من حياة واردة” فأنها رحلة معراج إلى الفردوس كما تخيلها مبدعنا ، رحلة تفنن في أخراج تفاصيلها و كأنك تتفرج على فيلم بألوانه و أصواته و ديكوراته المهيبة كل ما فيها يشد القارئ أليه شدّا وثيقا لاكتشاف مجهول يتنظره و يجيب عن غموض الضفة الأخرى من الحياة و فجأة يعود بك بالمعنى إلى البحث عن حضن الحياة الأول ألا و هو الأمّ و الأب
” لم يسبقْ لي في سيرة يتمي
أن همستُ لإمرأة :
” كم أحبّك يا أمّي ”
و لا في سيرة حزني
أن انفطرت من حكايا أبي ”
و لا يغيب معنى النضال عن ذاكرة شاعرنا في خذلان الشعارات و التزييف الذي ركب على دماء الشهداء و حراك الساحات لتشدّه إلى وهج الحياة و أوزارها و لكن لا يفتأ مبدعنا أن يعود إلى حضن الإلاه صبيا قريرا العين …
“أبقى مفعما دائما بسكينة الأبد
إلى الأبد…”
لقد جعل مبدعنا من نصّه الرّابع “ألواح بيد الفراغ ” الذي جاء بصيغة المخاطبة رسالة اتخذت من ذكرياته و أحلامه و أشواقه وديعة عند حبيبة حاضرة في المعاني غائبة في الشوق و الحنين …و هكذا كان حضور المرأة حيا نابضا رغم لواعج البعد …
“خذي كلّ أعماري المتبقية
من سالف عمري
خذيها دفعة واحدة
عساني بعدك أتأسّى
بفيض روحي
أشراقا من حياة أخرى
أسمو بها في الأعالي
أبد الآبدين ….”
” لا امرأة تحبّني ”
لقد أوغل المبدع في الشعور بالوحدة دون الحبيبة حتى صار يقصيها إقصاء تامّا عن عالمه بكل تجلياته الحسية و الشعورية و القيمية و المعنوية لكأنك نشعر معه بحدة الفراغ و العزلة ليعود ليحضن تلك البعيدة التي هزمت وحدته و انفراده بذاته و أشعلت فيه العشق الأبدي
“وحدها تعشقني وحدي
و في المشهد الأخير أسفل العالم
تتطلع لوجهي المتيبس
كإحاء الطلع في عزلته القاحلة
تراني أختنق فتقضي بصحبتي
ثمّ تتعالى معي في الأجواء
روحا شفيفة كي لا أموت وحدي ..”
أمّا النصّ السادس :
” تقرير سيكوباثي لرجل في عزلته المريبة ”
فقد كان عبارة عن جنس أدبي مستقل بذاته جمع جمال الشعرية و المذكرة الشخصية التي ترصد تفاصيل العلاج و تحيلها إلى مادة ذهنية شعورية تصرف صاحبها عن ألم واقعها و تزيد في تعلقه بالحياة و قد تكررت في لازمة :
” و كما الحال دائما
خلاف كلّ تقرير طبّي
حالتي لا تزال مستقرّة ”
أمّا ” مسودات نزيل الغرفة 21″
فقد اختزلت حياة القرن الحادي و العشرين بغرفة مغلقة محدودة تجاوز أديبنا حدودها بما يختلقه من عوالم و تخاطر و تبادل التجارب بالتحليق خارج أطر ضيق المكان إلى الأرحب و الأكثر استجابة لنداءات روحه الخفية في تصوير للرحيل مع البقاء للسفر مع العودة حيث الحضور الوارف للمرأة الرمز التي تشاركه الليل و الحلم و التحليق و العودة
حتى صار الموت كذبة ترديها الحياة….
لقد تفنّن مبدعنا في توطيف صروف البديع و البلاغة و تعددت أوجه الجناس و الطباق كوجهين لتناقضات الحياة في ثنائياتها و كأنها وصايا الحياة و البقاء و الوفاء ، سباحة بين طمي الرغام و علو السماء…
و في الأخير لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نمسك بكامل المعنى ولا كلّ الدّلالات و لا يمكن أن نحصر ما يحمله النص من عمق و دلالات و جمالية و شعرية متدفقة مهما كتبنا و لكننا نطمع في نيل شرف الاقتراب منه و المحاولة ليظلّ منفتحا على التنقيب و الحفر في زواياه برؤى مختلفة
( أحلام الهاشمي فتيتة )
Discussion about this post