العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم.
بقلم: ماهر اللطيف
نادى ابنه البكر، وهو على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، طلب منه غلق باب الغرفة التي يقيم فيها والبقاء بجانبه وحيدين لبعض الوقت ليتحادث معه، ويسلمه مشعل قيادة العائلة بعده قبل الرحيل النهائي.
وكان أفراد العائلة يبكون، يتحسرون، يحاولون أن يتماسكوا، ويستبسلوا ويتجلدوا، يصبروا خاصة أمام الأب الذي كان يتألم كثيرا من جهة، ويذكر الله باستمرار، ويرحب بالموت ضاحكا من جهة أخرى …
وكان صوت عبد الباسط عبد الصمد – بطلب من الأب – يصدع في كل المنزل ومكوناته، ويؤثثه بسور قرآنية متتالية أبدع في تلاوتها بطريقته الخاصة وصوته الشجي.
فأمر الوالد ولده أن يجلس بجانبه، وينصت إليه جيدا لآخر مرة – وقد أحس بدنو ساعة الفراق – ، فحادثه بصوت خافت مدة من الزمن قبل أن يعطيه ورقتين صغيرتين مطويتين بحرص شديد حتى بدتا صغيرتا الحجم، إثر وعد الابن لأبيه أنه لن يفتحهما، ويطلع على ما فيهما إلا بعد مماته وغسله وتكفينه وقبل دفنه، وأنه لن يعلم أحدا بفحوى هذا اللقاء حتى يحين موعد ذلك لاحقا.
وما إن أتما هذا الحِوَار، حتى نادى الأب الجميع، ابتسم في وجوههم، أوصاهم توصياته الأخيرة، وحثهم على الحب والتضامن والوحدة والتآزر وغيرها من القيم التي زرعها فيهم طيلة حياته بمعية زوجته التي ماتت منذ سنوات عدّة من جرّاءِ مرض خبيث ألم بها، ولم يعتقها حتى زهق بروحها، ثم طلب منهم تركه وحيدا لمناجاة ربه وذكره في انتظار قدوم عزرائيل وإتمامه مهامه.
ولم يطل الأمر حتى توفي الأب في يومها، وساد المنزل الحزن والأسى واللوعة، وبكى الجميع بمن فيهم الجيران والجدران ومزروعات فَنَاء المنزل، وحتى الحيوانات التي ألفت المَيْت، وألفها في كل مكان ناهيك وأنه ذو سيرة حسنة وأثر طيب.
وما إن غسل الميت، وألبس كفنه، واستعد الناس لدفنه حتى أمرهم الابن الأكبر بالتريث وانتظار عودته تنفيذا لوصية أبيه التي رفض الإفصاح عنها الآن حتى رجوعه، – وقد اطلع على محتوى الورقتين، وتذكرهما ما إن حل الموعد حسب الاتفاق بين الطرفين المتعاهدين – …
فخرج “رئيس العائلة الجديد” وامتطى سيارته وطوى الأرض طيا مدة من الزمن إلى أن توقف أمام قصر فخم وكبير، ترجل في اتجاه الباب، وطلب من الحارس مقابلة “السيد” لأمر مهم للغاية لا يتحمل التأخير أو التأجيل، وقد رفض الإفصاح عن هويته – مخافة رفض طلبه وتعطل كل شيء بما فيه دفن الميت -.
وكان له ما أراد حيث أعلم الحارس – عبر سماعة جرس المنزل – سيده بكل التفاصيل، فرفض صاحب القصر في البداية القدوم إلى هذا “الشخص المجهول” قبل أن يلح الولد في طلبه، ويصر بكل ما أوتي من قوة حينا، يترجى و يتوسل حينا آخر، إلى أن قبل السيد، وطلب إدخال الزائر إلى حديقة القصر أين ينتظره.
وها هو في “جنة من جَنان الأرض” قبالة شخص أنيق المظهر، جميل المنظر، رشيقا وممشوق العضلات، يصافحه فيرد السيد على تلك المصافحة ببرود تام، ثم يقول بصوته الخشن ونبرة فيها الكثير من الاحتقار:
– هات من الآخر يا هذا، لا وقت لدي لأضيعه مع أمثالك (وهو ينظر له بازدراء واحتقار من أسفل إلى فوق، ومن فوق إلى أسفل، ويدخن سيجارة فخمة وكبيرة الحجم)، أنجز بسرعة واختصر.
– (بكل ثقة في النفس ومخفيا خوفه وتردده وخشية ردة فعل هذا “الوحش” الآدمي كما يظهر جليا) أنا حسن بن عبد الملك المؤمن (والرجل غير مبال ينتظر نهاية اللقاء)، توفي والدي، ونحن نستعد لدفنه بعد حين (والرجل يرفع كتفيه، ويحرك حاجبيه، وكأنه يقول له “وما دخلي في ذلك؟ “) ، لكنه طلب مني مدك بهذه الورقة الآن قبل أن يصبح تحت التراب (ويعطيه الورقة، فينتبه السيد، ويقرؤها بانتباه شديد، فيتغير لون وجهه، ويتصبب عرقا، ثم يبكي بحرقة فجأة ، ويضرب على فخذيه بقوة شديدة عدة مرات، وهو مسمر العينين أرضا لا يجرؤ أن ينظر إلى حسن في عينيه)
– (باكيا) هل تعلم من أكون؟ (وحسن يشير برأسه بالنفي) أنا عمك الأكبر من الأب، (متذكرا مراحل حياته) ماتت أمي، وهي تلدني فتزوج أبي جدتك التي لم تحسن لي خاصة حين أنجبت والدك، وكبرت بعد أن ذقت الأمرين في بيتكم. فانتهزت أول فرصة عند اشتداد عودي ، وتحايلت على والدي، وأرغمته على التنازل عن كل أملاكه وعقاراته وشركاته، وكل الأرصدة البنكية وغيرها، وحرمان والدك من كل شيء، مما عجل بوفاة والدي قهرا بعد مدة، وتبعته جدتك في الشهر نفسه. ورغم محاولات والدك والتجائه إلى القضاء بعد توسله وإلحاحه وتدخل القريب والبعيد، فإنه لم يحصل على مليم واحد مني غير منزلكم الذي ترجع ملكيته إلى أمك للأسف…
وواصل السرد وأعلم ابن أخيه أنه لم يكتف بذلك بل سعى إلى الانتقام من أخيه وحرمانه من كل شيء بما فيه قوت يومه، إلى أن بات يعمل عاملا يوميا، ويكابد صعاب الحياة ومشاغلها ومكائد أخيه الذي تبرأ منه، وهدده بالقضاء عليه، وعلى أسرته كُلََّها إن اقترب منه أو واصل تقفي خطاه ومحاولة استرجاع ما انتزع منه…
بعدها – وما زالت الدموع تنهمر مدرارا من عينيه وصوته متقطعا -، أعرب له عن ندمه الشديد وأنه سيرجع الحق لأصحابه فورا، ولن يحرمهم من شيء بعد الآن، وطلب من حسن انتظاره لمرافقته وحضور مراسم دفن أخيه وقيامه بواجبه تجاهه وتجاه بقية العائلة وأفرادها.
إلا أن حسن صده، وقال له “نسيت أن أعلمك أن والدي قد ترك لي ورقة ثانية – مده بنسخة منها قام بنسخها ما آن خرج من المنزل كما طلب منه والده – يمنعني بموجبها السماح لك بحضور الدفن أو عيادتنا مجددا إلى الممات من جهة، ويحجر علينا قبول أي مليم منك أو أي شيء آخر تحت أي سبب من الأسباب، ولو كان عذاب الضمير واستفاقته من جهة ثانية، بما أن صاحب الحق قد مات، ومات معه تاريخه وترك أبناء قنوعين يرضون بما كتب الله لهم، والحمد لله أننا جميعا نعيش عيشا يرضينا، ويرضي آمالنا وطموحاتنا”.
ثم قفل حسن مسرعا إلى المنزل العائلي لدفن والده بما أن”إكرام الميت دفنه”، وترك عمه غارقا في دموعه وحسرته وندمه عما قام به حتى خسر الدنيا والأخرة، وحرم من تورية أخيه الوحيد ، وهو يعيد قراءة الرسالة التي تركها له المرحوم، وقد ورد فيها ” أذهب بعد حين لملاقاة ربي ورفع أمري إليه ، سأقاضيك أمام العادل بعد أن خفقت في ذلك في الدنيا، سأسترد حقي منك أيها المتجبر، الظالم، الحقود… تمتع بوسخ الدنيا وأهنأ بها إلى حين مثولك أمام الله. لن أسامحك، لن أسامحك، لن أسامحك”.
لكنه هرع إلى المقبرة متنكرا، وحضر جنازة أخيه، وقلبه يتقطع ألما وندما، خاصة حين رأى حزن أبناء أخيه، وشعر بلوعتهم جراء هذا الفراق المميت الذي تسبب فيه، ولو بنسبة قليلة بما أن أجله قد حان.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى مات العم أيضا قهرا وألما ووهنا بعد أن شعر بالذنب، وعجز عن التصالح مع أبناء أخيه الذي لفظوه لفظ مياه البحر لجثث الغرقى.
Discussion about this post