كنت هائما ، تائها، ضائعا، لا أعلم مكاني ولا زماني ولا من أكون، أمشي وأجيء بين الشوارع والأزقة في كل الاتجاهات مسمرا نظري في المارة والجالسين وكل من يعترضني عساني أتعرف على أحد منهم أو يتعرف علي شخص ما ، فيحل مشكلتي وأتعرف على نفسي أولا ثم نسبي ثانيا وبقية تفاصيلي ثالثا….
فقد كنت حافي القدمين الملطختين بالدماء والأوساخ والجراثيم وبعض الديدان التي كانت تنهش لحمي، مرتديا سروالا أسود اللون في الأصل على ما أظن، لكنه الآن شديد القتامة والأوساخ والفتحات متعددة الأحجام والألوان ، ممزقا من كل مكان حتى برز لحمي وما يحمله من أدران وجراثيم وغيرها، وقميصا أحلك من الليل من شدة ما يحمله من بقاع ودماء وبقايا أكل وغيرها – وهو أبيض اللون في الأصل كما يبدو لي وأتذكر – ….
وكانت لحيتي بيضاء متدلية تكاد تغطي رقبتي ، شديدة الأوساخ والقذارة وقد تجولت فيها بعض الحشرات ، تماما مثل شعري الأبيض الكثيف المستلقي على أكتافي وكانت فروة رأسي تحرقني وتجعلني أفركها باستمرار من كثرة عفنها وتكاثر روادها من الحشرات….
وكنت كذلك أبحث عما يسد رمقي ويبل ريقي ويرجع في الحياة التي كدت أفقدها من الجوع والعطش والتعب والإعياء والتفكير وقلة التدبير بما أني لا أعلم ولا أفقه شيئا، فمن أكون؟ ماذا أفعل هنا ولماذا؟ أين بيتي وعائلتي إن كانت لي عائلة؟ ما حكايتي؟…. وألف سؤال وسؤال لم أجد لهم من تفسير وتعليل….
وفجأة، لمحت سيارة فخمة راسية أمامي في هذا المربض المعد للسيارات وعلى مقعدها الأمامي المجانب لمقعد السائق حزمة من الأوراق النقدية ذات القيمة العالية – فقد تذكرت المال والأوراق النقدية ولم تغب عن ذهني كبقية الأمور الأخرى – ، فقررت دون تردد أو تفكير الاستيلاء عليها كلفني ذلك ما كلف بعد ما زين لي الشيطان هذا الصنيع وأقنعني أنه السبيل الوحيد لقضاء شؤوني وتمكيني من حاجياتي واحتياجاتي وغيرها….
فالتفت في جميع الاتجاهات وبحثت عما يعينني في فتح باب السيارة دون اللجوء إلى كسر النافذة وربما جلب اهتمام الناس والوقوع في شر أعمالي، لكنني لم أجد في بادئ الأمر ،فاقتربت وحاولت فتح الباب – ربما يكون السائق قد نسي غلقه – ،وفعلا فتح دون عناء….
فابتهجت أي إبتهاج، وأسرعت للقبض على المال قبل أن أشرع في الهرب وترك المكان بما فيه والإختفاء في أي مكان حتى تمر هذه الحادثة وتغادر السيارة المكان.
لكن، وقع ما لم يكن في الحسبان ويدي لا تزال تمسك الحزمة المتواجدة على الكرسي ، فقد سمعت صوتا داخليا يهمس في أذني بكل قوة وحدة :
– أترك المال مكانه واتق الله يا هذا
– (مرتبكا وصائحا) الجوع كافر والحاجة قاتلة
– ( مقاطعا بحدة) ويحك يا هذا، ألا تخشى الله وعذابه؟؟؟
وواصل عتابي ولومي ومحاولة منعي عن هذا الصنيع وإرجاعي إلى الجادة، وواصلت إصراري على السرقة إلى أن عدلت عن نية أخذ كل المال وخيرت أخذ ورقة واحدة لأتناول بها مأكلي ومشربي وربما مقر نومي لهذه الليلة، فاستللتها بعنف وحررتها من الحزمة ونويت المغادرة،غير أن الصوت واصل اللوم والسخط إلى أن تركت الورقة بجانب الحزمة وأغلقت باب السيارة وتراجعت خطوات إلى الوراء لأحمي السيارة ومحتوياتها وأنتظر صاحبها عساه يمن علي ببعض المال الحلال جراء صنيعي هذا….
وبعد فترة، قدم كهل في مقتبل العمر ، أنيق الملبس والمظهر وإتجه صوب السيارة، فاستغرب من وجودي – أو ربما مظهري وشكلي الكئيب – ، وإقترب مني مندهشا ومصدوما وهو مسمر العينين في قبل أن يقول “أين أعرفك،أين أعرفك؟ يا إلهي، من هذا الشخص؟ إني أعرفه جيدا…”، وواصل التساؤل والتفكير دون أن يصل إلى نتيجة – ولم يكن هذا الشخص يعني لي شيئا – ، فطلبت منه العون بعد أن أعلمته عن حالتي وضياعي وإغترابي وغيرها ، فابتسم وإتجه نحو الباب ليفتح سيارته بالمفتاح فوجده مفتوحا، إندهش وصدم وأسرع يبحث عن المال فوجده على الكرسي ، عده بعد أن وجد ورقة خارجة عن الحزمة ثم حمد الله -كان المبلغ كاملا – وتذكر أنه نسي المال هنا عندما نزعه عن بقية الأموال التي أودعها البنك ولم ينتبه أنه لم يخفه ولم يغلق جيدا السيارة، لكنه إستغرب عن سر هذه الورقة المنعزلة عن الحزمة، فابتسمت وقصصت عليه ما حصل بالتفصيل ، متى تقاسمنا الضحك وشكرني على صنيعي وأهداني المال كله عن طيب خاطر وأعلمني أن هذه الحزمة معدة للزكاة عن أمواله بعد إنقضاء حول عليها وهي من نصيبي الآن.
وبعدها ، غادر المكان بعد أن استدعاني على العشاء وحجز لي غرفة في فندق قريب من هذا المكان واقتنى لي ملابسا جديدة ووعدني بأن يحملني غدا مبكرا إلى مصحة ليعتني بي وبصحتي.
وفعلا ، قدم في الغد مصحوبا بجمع من الناس رجالا ونساء ،أطفالا وكهولا ، فارتموا في أحضاني وأشبعوني قبلا وكلاما جميلا وعتابا ولوما وغيرها كثيرا لم أفقه منه شيئا حينها من شدة الواقعة و قوتها….
و رويدا رويدا، ذكروني أنهم عائلتي (زوجتي وأبنائي وأحفادي وجاري الذي جلبهم لي بعد أن أعلمهم بما حدث) ، نقطن في المدينة المجاورة لهذه المدينة ، وكنت سيدا من أسيادها وشيخا من شيوخها وثري من أثريائها منذ عقود ، وقع اختطافي ليلة إثر صلاة العشاء من طرف مجهولين وغبت عن الأنظار إلى يوم الناس هذا….
وبعد أن استرجعت ذاكرتي تدريجيا بعد وقت طويل نسبيا، تذكرت أن من اختطفوني (عصابة إجرامية محترفة) فعلوا ذلك طمعا في فدية من أهلي، لكنهم لم يفلحوا في الإتصال بهم بعد أن علموا أن الشرطة تبحث في الموضوع منذ ليلة الاختطاف وأن كل تحركات وتصرفات ومكالمات أهلي مراقبة ، فعذبوني عذابا أليما ونالوا مني شر نيل، (ولا فائدة في تفصيل العذاب وذكره لبشاعته وقساوته) إلى أن مرضت وهزل جسدي وإعتل،ثم فقدت الذاكرة فقدانا كاملا جراء الضرب واللكم والركل وغيرها……
وبمرور الزمن والقبض على البعض وموت البعض الآخر وفرار من فر وغيرهم ، وقع نسياني وإهمالي في بيت مهجور لفترة من الزمن ، قبل أن أنجح في خلع الباب بعد آلاف المحاولات والفرار بسرعة إلى هذا المكان حيث وقعت هذه الواقعة.
Discussion about this post